|
جامعة عبد المالك السعدي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
شعبة اللغة العربية وآدابها
تطوان-مرتيل
|
مسلك
الدراسات العربية
شعر مغربي حديث الموسم
الجامعي: 2012/2013
الشعر المغربي الحديث
الأستاذ
الدكتور: أحمد هاشم الريسوني
مفهوم قصيدة النثر
1- شعرية المضاف إليه:
إن
الخوض في هذا الأمر لمحفوف بالمخاطر والأهوال من كل جانب، خاصة وأن إطلاق هذا المصطلح
يحوي تناقضا مثيرا وصارخا في ظاهره، فكيف أمكن الجمع بين كلمتي: "قصيدة"
و"النثر" في سياق واحد موحد؛ فالأولى جاءت في صيغة النكرة، في حين
استولت الثانية على صيغة (المعرَّف)، ونعرف أن النكرة اسم يدل على شيء غير معين،
وهذا يعني أن كلمة "قصيدة"، خارج سياقها هذا تدل على شيء غير معين،
بينما نجد أن المعرفة اسم يدل على شيء معين، وهو ما يؤكد أن كلمة
"النثر" لها دلالة معينة. وفي المصطلح أعلاه جمع بين نكرة ومعرفة، أي
جمع بين شيء معين وشيء غير معين.
إذا
عاودنا التأمل من جديد، لوجدنا أن هذا المصطلح المشكل من لفظتين يحوي مضافا ومضافا
إليه؛ فالمضاف هو لفظة "قصيدة" والمضاف إليه هو لفظة "النثر"،
والقاعدة النحوية تقول إن المضاف اسم نسب إلى اسم بعده، فتعرف بسبب هذه النسبة أو
تخصص. وحين الرجوع إلى مصطلحنا أعلاه نلاحظ أن لفظة "قصيدة" هي الاسم
النكرة الذي نسب إلى اسم بعده، وهو "النثر" المعرف بالألف واللام، ومن
ثم انسحب هذا التعريف على الاسم النكرة "قصيدة"، فامتلك صيغة التعرف،
كما امتلك صفة التخصص، حيث أصبحنا نفهم في هذا السياق أن كلمة "قصيدة"
تخص اللون الشعري الذي له ارتباط وثيق بالنثر، دون سواها من القصائد التي لا تخرج
عن المفاهيم المعروفة للشعر.
تأمل
ثالث في المصطلح المذكور، يتركنا نستنتج، من خلال العلاقة القائمة، بين النكرة
والمعرفة من جهة، وبين المضاف والمضاف إليه من جهة ثانية، هيمنة لفظة
"النثر" على لفظة "قصيدة"، واحتواءها لها، وبسط نفوذها
الدلالي والمعنوي على كل سياقاتها. مما يقلص مساحة فاعلية "قصيدة" ويحد
من حيويتها وقوتها. فلقد منحها النثر صك غفرانه قبل أن تنتسب إلى المعرفة وإلى
التخصص. ومن ثم ظل حارسها الأمين، وظلها الذي لا يغيب عن محيطها وقطرها ولو لبعض
مهلة. وهذا يدل دلالة فسيحة على أن هذا النص الأدبي المسمى: "قصيدة النثر"
يمتلك من السمات النثرية أكثر مما يمتلك من السمات الشعرية. فالشعر فيه مضاف إلى
النثر، ولا تتحدد معالمه، ولا تتشكل سماته وملامحه، ولا تتحقق كينونته وصورته إلا
من خلال النثر، الذي يمارس سلطته الدلالية والمعنوية، ويفصح عن ملمح هذه القصيدة.
إنه وحده "الدال الأكبر" في تشكيل سمات ومكونات هذا النص الأدبي.
2- بحثا عن اسم:
إن هذا
الإلتباس الواضح في مفهوم ودلالة مصطلح "قصيدة النثر"، سواء على المستوى
اللغوي/المعجمي، أو على المستوى الدلالي/المفهومي، كان نتيجة لهذا التشاكل المثير،
والذي حاول أن يؤالف بين ذاتين متمايزتين، هما: ذات الشعر، وذات النثر، في سياق
موحد وأحادي. ولقد واكب النقد العربي تحولات هذا النص الإبداعي، وإن ظلت هذه
المواكبة لم تصل - قط - إلى القوة المرجوة، والتي عاشها مسير ذلك النص الإبداعي،
ولكن في مجمل الأحوال، كانت هنالك محاولات لابأس بها في البداية، نذكر على سبيل
المثال أمين الريحاني، الذي كتب مجموعة من القصائد، نسبها إلى ما أسماه: "الشعر المنثور"، ورأى أن هذا اللون
مغاير تماما لما سلف من الشعر، وهو يدخل في سياق حركة شعرية جديدة، وقد أشار إلى
أن هذه الحركة تعود جذورها إلى بلاد الغرب، حيث تسمى عند الفرنسيين(vers libre)، وعند الإنجليز (Free Verse). وكما نلاحظ، فإن هذين
المصطلحين الغربيين انتقلا بطرائق مختلفة ومتنوعة إلى جغرافية الشعر العربي الحديث
في صورة الاصطلاح المعروف عندنا، وهو "الشعر الحر"، أو "الشعر الحر
الطليق". ويشير الريحاني في نفس السياق إلى أن "لهذا الشعر الطليق وزنا
جديدا مخصوصا، وقد تجيء القصيدة من أبحر عديدة ومتنوعة"[1]. والحقيقة
أن تعريف الريحاني هذا لـ"الشعر المنثور" أو "الشعر الحر
الطليق"، يتركنا نحس بتناقض كبير في بناء المفهوم، وبلبس في تحديد سمات
ومكونات هذا الشعر. فهل يمكن أن نتصور شعرا منثورا، أو شعرا حرا طليقا، مقيدا - في
الآن ذاته - بالأوزان والبحور؟ هذا دليل على أن الريحاني لم يعمق فهمه وتصوره
لمصطلح "الشعر المنثور"، بل رأى أن التخفيف من النظام الصارم للقصيدة
العمودية يمكن أن يرحل بالشعر من شعريته المطلقة إلى أفق نثري أكثر رحابة واتساعا.
والواقع أن هذا الأمر أصبح حقيقة في شخص "قصيدة التفعيلة" أو
"الشعر التفعيلي"، بدءا من بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، ولكن هذا
اللون لم ينتسب أبدا إلى أفق النثر، بل ظل ملازما لأفق الشعر بدءا وختاما. ومع
ذلك، فإننا لا نناقش أمين الريحاني في مضمون تصوره، بل كل ما يهمنا في هذا الأمر
هو أن الريحاني أطلق مصطلحا جديدا في أفق الشعر، أو لنقل مصطلحين، هما:
"الشعر المنثور" و"الشعر الحر الطليق"، وهما يعدان من بين
الأسامي الأولى لـ "قصيدة النثر".
كما ظهر
لاحقا مصطلح آخر لهذا اللون الإبداعي هو مصطلح "الشعر المنسرح" لصاحبه
الأديب اللبناني ميخائيل نعيمه. وقد ورد عنده هذا المصطلح ضمن مقالة كان يتحدث
فيها عن الشاعر "وولت وايتمان"، ولفظة "المنسرح" عند نعيمه لا
علاقة لها بالبحر الشعري المعروف عندنا، بل اختارها لكونها خير ما تدل على الانطلاق
والتحرر. ولقد كان ميخائيل نعيمه أعمق فهما وتمثلا لهذا اللون الشعري من الريحاني،
حيث أشار إلى أن أهم ما يتسم به هو تحرره من الوزن والقافية، و«جريه على السجية
جريا ليس يخلو من الإيقاع الموسيقي والرنة الشعرية»[2]. ولا شك
أن المسافة الزمنية الممتدة بين التصورين كانت كفيلة بإبراز هذا العمق، وهذا
التطور. فالريحاني قال رأيه سنة 1910، بينما رأي ميخائيل نعيمه كُتِبَ سنة 1949م[3].
بعد ذلك
بعشر سنوات، أي في حدود سنة 1959 يصدر الشاعر محمد الماغوط ديوانا تحت عنوان:
"حزن في ضوء القمر"، ولقد تناولته الناقدة خالدة سعيد «برأي أكثر جرأة
واندفاعا، حين أعلنت بصريح القول، خلال نقدها مجموعة محمد الماغوط "حزن في
ضوء القمر"، أن "النثر الشعري" في هذه المجموعة شعر وإن لم يعتمد
الوزن والقافية، ومن ثم، وجهت اللوم لغالبية القراء في البلاد العربية، لأنها لا
تسمي هذه المجموعة شعرا (باللفظ الصريح)، وتبقى عند حدود المصطلحات السابقة
"شعر منثور"، "نثر شعري" أو "نثر فني"، مع أن هذه
الغالبية (تعجب بهذه المجموعة وبمثيلاتها على أساس ما فيها من مادة شعرية وكلها
ترفض أن تمنحه اسم الشعر)»[4].
وهكذا نحس مع خالدة سعيد أن هذا اللون الإبداعي المنفلت يتسع لمصطلحات أخرى هي
قديمة نسبيا، مثل: "النثر الشعري" أو "النثر الفني" مثلما
اتسع لمصطلحات جديـدة - كما رأينا.
سنة
واحدة بعد صيحة خالدة سعيد، ينشر زوجها أدونيس مقالة مهمة وحاسمة في مجلة
"شعر"، التي كان هو أحد سدنتها، وذلك تحت عنوان: "في قصيدة
النثر"، وخلال تناولنا لهذا المقال، نجد أنه قد اعتمد فيه اعتمادا تاما
ومطلقا على آراء الكاتبة الفرنسية سوزان برنار Suzanne
Bernard، من خلال كتابها الشهير " قصيدة النثر
من بودلير حتى وقتنا الراهن" (Le
Poème en prose de Baudlaire jusquصà
nos jours)[5]. والذي
كان قد صدر في لغته الأصلية سنة 1958. وهكذا يدخل إلى أفق هذا اللون الإبداعي
المنفلت من كل تسمية مصطلحا جديدا، أصبح منذ تلك اللحظة مهيمنا، وماحيا حينا
للأسامي الأخرى، وحاويا لها حينا آخر، وهذه الهيمنة لها دواعيها، سنثيرها لاحقا.
باقي
الأسامي التي لم نذكر تفصيلاتها، لم تكن موقع نقاش وجدال بين مد وجزر، بل أثيرت
هنا أو هنالك، مرة بشكل عابر، ومرات دون تسييج لسماتها ودلالاتها، منها على سبيل
المثال وليس الحصر؛ "النثيرة"، و"النثر المشعور"،
و"الشعر المرسل"، و"الشعر العصري"[6].
بل إن هذا اللبس الفظيع في مسألة تحديد تسمية
معينة لهذا اللون الإبداعي دفع بالنقاد والدارسين إلى درجة المماحكات والسخرية
والاستهتار، وذلك باقتراح أسامي تفرغ هذا اللون الأدبي من إبداعيته، ومن جماليته،
ففي تقديمه للترجمة العربية لكتاب سوزان برنار السالف الذكر، يشير الشاعر رفعت
سلام إلى بعض هذه المماحكات، فيقول:»وصلت هذه المماحكات - لدى أحمد درويش، الأستاذ
بكلية دار العلوم - إلى حد فكاهي، حقا؛ إذ يقترح - جادا - في أحد مقالاته بجريدة
"الأهرام" تسميتها بـ "العصيدة"، ويبذل جهدا لغويا مضنيا - من
خلال العودة إلى القواميس القديمة- للبرهنة اللغوية القاموسية على اقتراحه
الاصطلاحي. راجع أحمد درويش، "عصيدة النثر" ومصطلح أدبي مقترح، الأهرام
(9/8/1996) ملحق الجمعة ص: 9 «[7].
وهكذا ينضاف إلى بقية الأسامي اسم جديد لهذا المولود الذي ظل ينتظر اسما معينا،
وهو في نفس الآن يحمل كل الأسماء. إلا أن اسم "عصيدة النثر" لا يمكن
لدارس رصين ومسؤول أن يدخله في مجال الدراسات الأدبية !؟
3- بين
الشعر والنثر:
يمكن
لنا الآن، وبنسبية كبيرة، أن نتأمل في تلك الحصون والقلاع، والمتاريس أيضا، التي
شيدها القدماء لحماية مملكة الشعر، ومن خلل ذلك وضعوا حدودا صارمة بين الشعر
والنثر، ونبهوا إلى ضرورة عدم تجاوزها واختراقها، أو محاولة خلق تواشج وتآلف بين
الطرفين. والحقيقة التي يمكن استخلاصها من كل هذا، هو أن أصحاب الشعر كانوا
متعصبين لبضاعتهم، وكانوا أشد ما يخشونه، ويقض مضجعهم هو الغزو المحتمل في أي حين
لمملكة الشعر من طرف جمهورية النثر.
هكذا
نلاحظ أن الشعر كان وما يزال مملكة باذخة لا يعتلي عروشها إلا النخبة من عشاق
الكلمة الساحرة، أما النثر فإنه جمهورية مشرعة أمام كل من استطاع أن يعانق دلالة
الكلمة. إن الخوف من هذا الغزو هو الذي كان الحافز الأكثر إيغالا في تبيين الفواصل
المميزة للشعر، والاجتهاد في تجلية تمايزاته عن النثر، ومن خلال هذه التمايزات كان
دائما يتم التوكيد على رفعة الشعر وتفضيله على النثر، الذي يظل دائما أقل قيمة،
وأدنى مرتبة من الشعر. ألم تكن هذه النظرة التفضيلية هي لون من ألوان الدفاع الذي
أشرنا إليه؟
يقال إن
أحسن وسيلة للدفاع هي الهجوم. ويبدو أن الشاعريين كانوا دائما يحصنون مواقعهم
الدفاعية بالهجوم على النثر من خلال وضع الشعر دائما في المرتبة العليا.
هذه
مجرد تأملات - لها نسبيتها - لكنها تستمد مشروعيتها من عمق هذا الصراع الأبدي بين
الشاعريين والنثريين، والذي يشهد الآن ذروة عنفوانه في أحضان "قصيدة
النثر".
القدماء
كانوا أكثر وضوحا وموضوعية في دفاعهم عن تمايزات الشعر، ونحن ما زلنا لحد الساعة
نستعيد آراءهم وأفكارهم في صور شتى، وإن كانت تأخذ سياقات مختلفة ومغايرة في
الظاهر. فالتعريف الذي وضعه ابن طباطبا - مثلا - (توفي عام 322 هـ) عاش هجرات
تنظيرية على امتداد تاريخ الحركات الشعرية العربية. وهو الذي قال إن الشعر: «كلام
منظوم بائن عن المنثور[8] الذي يستعمله الناس في مخاطبتهم، بما خص به من
النظم، الذي إن عدل عن جهته مجته الأسماع، وفسد على الذوق، ونظمه معلوم محدود، فمن
صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الإستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه، ومن
اضطرب عليه الذوق لم يستغن من تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به، حتى تعتبر
معرفته المستفادة كالطبع الذي لا تكلف معه»[9].
إن
النظم والوزن هما السمتان الدالتان على "شعرية النص"، أو لنقل
"شعرية القصيدة"، وهاتان السمتان ظلتا حاضرتين بقوة في كل التعريفات
التي ستأتي بعد ذلك، سواء عند القدماء[10] أو المحدثين. صحيح أن ناقدا مبرزا مثل حازم
القرطاجني (توفي عام 684 هـ) قدم تصورا جديدا لمفهوم الشعر، لكنه في النهاية ربطه
بالوزنية ربطا جذريا، فهو يرى أن الشعر «كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى
النفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه لتحمل بذلك على طلبه أو
الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن هيأة
تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته، أو بجموع ذلك، وكل ذلك يتأكد بما يقترن
به من إغراب، فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها من الخيالية
قوى انفعالها وتأثيرها»[11].
لم يكن
للبلاغيين والشاعريين وحدهم هذا التصور حول الحدود المميزة للشعر عن النثر. بل حتى
الفلاسفة كانت لهم نفس النظرة، ربما أعمق دقة واستيعابا لفواصل الشعر. فلنتأمل في
رأي ابن سينا (توفي عام 429 هـ) الذي يقول: «إن الشعر كلام مخيل مؤلف من أقوال
ذوات إيقاعات متفقة، متساوية، متكررة على وزنها، متشابهة حروف الخواتم، فالكلام
جنس أول للشعر يعمه وغيره، مثل الخطابة والجدال، وسائر ما يشبهها، وقولنا
"مخيل" يصل بينه وبين الأقاويل العرفانية التصديقية والتصورية، وقولنا
"ذوات إيقاعات متفقة" ليكون فرقا بينه وبين النثر، وقولنا
"متكررة" ليكون فرقا بين المصراع والبيت، وقولنا "متساوية"
ليكون فرقا بين الشعر وبين نظم يؤخذ جزاءه من جزئين مختلفين. وقولنا "متشابهة
الخواتيم"، ليكون فرقا بين المقفى وغير المقفى، فلا يكاد يسمى عندنا بالشعر
ما ليس مقفى»[12].
إن
تعريف ابن سينا، هذا، يكاد يحسم في عملية بناء مفهوم متكامل ومنسجم للشعر في
العربية، فهو ركز على أهم العناصر التي تؤسس لمفهوم الخطاب الشعري، وهي: 1 -
التخييل، 2 - الإيقاع، 3 - الوزن، 4 - القافية، 5 - الكلام أو اللغة. فإذا اجتمعت
هذه العناصر كلها في انسجام تام، فلابد أن تولد قصيدة شعرية متكاملة، وإذا غاب
عنصر من هذه العناصر، أو حضر بصورة ضعيفة، وغير منسجمة مع بقية العناصر، فإن
القصيدة الشعرية ستكون هي الأخرى غير منسجمة، وغير متكاملة. ولاحظنا كيف أن كل
عنصر من هذه العناصر يمكن أن يوجد خارج مملكة الشعر، فمثلا عنصر
"التخييل" يوجد في الأقاويل العرفانية، وهذا ما نسميه نحن الآن بالكتابة
الصوفية. ومن هذه الزاوية بالذات نعتقد أن الذين ينظرون إلى هذه الكتابة الصوفية
بوصفها "قصائد نثرية" إنما ينظرون إليها في سياقها التخييلي، إلى جانب
تكثيف الصور. كذلك فإن عنصر "الوزن" يوجد في تشكيلات نظمية ليست من
الشعر في شيء، نأخذ مثلا على ذلك ألفية ابن مالك التي تندرج فيما يسمى
"بالشعر التعليمي". هكذا تستطيع أن تهاجر هذه العناصر، منفردة ومنعزلة،
إلى بعض جهات جمهورية النثر، لكنها تحت شرفات مملكة الشعر يجب عليها من الضروري
والحتمي أن تكون مجتمعة، وحاضرة في انسجامها التام مع بعضها البعض دون أدنى غياب.
ولقد
أشار ابن سينا إشارة واضحة إلى العنصر الحاسم في عملية التفريق والتمييز بين الشعر
والنثر، والمتمثل في "الإيقاع"، وهو عنصر يحوي الوزن والنظم في آن. ثم
أشار إشارة ذكية إلى عنصر "القافية" وعده خصيصة أساس في الشعر العربي،
حيث يكون هذا الشعر غير كامل عند غيابها. وهذه إشارة تستبطن الإطلاع الواسع لابن
سينا على أشعار الأمم الأخرى غير العربية، وأنه وقف على ألوان شعرية تخلو من
التقفية، ورغم ذلك، فإنها تظل تحسب عند أهلها شعرا. في حين، تشرع شرفة مغادرة
مملكة الشعر أمام وجهها - بإلحاح - بمجرد تركها للتقفية عندنا.
ولقد
رأينا - سابقا - كيف أن أديبا حديثا مثل أمين الريحاني، لم يستطع الإنفلات من سلطة
هذه التصورات القائمة، والتي تجذرت عبر القرون، وحفرت كينونتها في الغشاء الداخلي
لروح الكلمة. فحتى حينما أراد أن يتحدث (بطلاقة وتحرر) عن الشعر المنثور رأى أن
"الوزن" في تشكيل جديد هو السمة المميزة لهذا اللون الشعري الجديد.
وحتى
رواد قصيدة التفعيلة رأوا أن الوزن هو الروح المشع والمتوهج في جسم الشعر، ولا
يوجد شعر خارج الوزنية التفعيلية. وهو موقف صاحب العديد من رموز الحداثة، بل إن
بعضا من رعاة "قصيدة النثر" هم أيضا ظلوا مشدودين إلى عنصر الإيقاع
النغمي، الذي يميز الشعر عن النثر. فيما يلي سنذكر بعضا من هذه الآراء وتلك: يقول
الشاعر بدوي الجبل، في محاولة تقديم تعريف للشعر: «أما الشعر فلا تعريف له، وكل
تعريف للشعر جرأة على تفرده وتميزه. كل ما يعرف يمكن أن يعاني، والشعر لا يعاني
إلا من الشاعر. والشعر عندي نوع من النبوة. إنه خيال، نغم، وضوء، وصور. ولكنه فوق
ذلك شيء أشمل وأدق. ولا يمكن التعبير عن هذا الشيء مطلقا. وعندما أشبهه بالنبوة،
والنبوة إلهام وغيبية، أكاد أحس أنني عبرت - تعبيرا ناقصا - عن هذا الشيء في
الشعر.
وأنا لم
أدرس العروض في حياتي، ولكنني، بحس مرهف، استطعت أن أجعل شعري منسجما مع الأوزان.
أعتقد أن الوزن في الشعر العربي قطعة لا تتجزأ منه. وكل عبث بالأوزان هو عبث
بالشعر وعبقريته وإلهامه. النغم والمفردات والخيال والصورة، تأتي في وقت واحد، ولا
تفريق بينها، فلا النغم يبدع المفردات، ولا المفردات تبدع النغم، إنها عندي وحدة
لا تتجزأ، ولا يوحي أحدها الآخر، بل تأتي كلها إلهاما لا يستطاع تفسيره»[13].
هكذا
يبقي الشاعر الجبل على عنصر الوزن، أو النغم، أو الإيقاع داخل نسيج البناء الشعري،
ويراه جزءا لا يمكن الاستغناء عنه؛ فهو ينظر إلى الشعر في صورة عناصر مرتبطة مع
بعضها البعض ارتباطا "مبنينا"، بمعنى أنك إذا فصلت عنصرا عن باقي البناء
ستجد أن هذا العنصر لا قيمة له في ذاته، ولكن قيمته تكمن في ترابطه مع باقي
العناصر. وبهذا المفهوم يصبح النغم أو الوزن ضروريا لاكتمال النص الشعري.
أما
الشاعر نزار قباني، فإنه يقول: «الإيقاع من حيث التوقيت متقدم زمنيا. إنه الملك
الذي يمشي أولا، ومن ورائه تمشي اللغة كوصيفة ثانية.
القصيدة
تبدأ عندي بهذيان موسيقي، بغمغمة، بكلام لا كلام له، ثم تأتي اللغة لتنظيم هذا
الهذيان وتحتويه وتحبسه.. في داخل زجاجات المفردات.
طبعا،
فالإيقاع سطح ممغنط تنجذب إليه الكلمات بصورة جبرية، كما تنجذب برادة الحديد إلى
المغناطيس.
الإيقاع
هو بؤرة العدسة حيث يتجمع الضوء ويتكثف، وهو المركز الهندسي لدائرة القصيدة.
إن بعض
بحور الشعر العربي مثلا، كالتأليف الموسيقي، تخلق حولها جوا ومناخا نفسيا خاصا
بها. فالبحر الطويل يخلق مناخا ملحميا، والبحر البسيط يحمل في موسيقاه الحزن
والسوداوية، وبحر الخبب يدق أجراس الفرح.
وفي هذا
دلالة على أن إيقاع القصيدة ليس برزخا منفصلا عنها، ولكنه المفتاح الرئيسي إلى
تقسيماتها الداخلية، والحجر الأساسي في هندستها»[14].
وبهذا،
فإن نزار قباني هو الآخر ينظر إلى كون الإيقاع الخارجي أو الوزنية التفعيلية
النغمية هي بؤرة الفعل الشعري.
ولا
يمكن أن نتحدث عن تشكل شعري معين خارج إطار هذه الصورة.
سيطرح
أدونيس - كعادته - تمايزا (جديدا) بين الشعر والنثر وذلك من خلال حديثه عن قصيدة
النثر، وهذا عين مرادنا، ولذلك آثرنا أن نختم تأملاتنا هاته في الحدود الفاصلة بين
الشعر والنثر برأيه، حيث يقول فيه: «قصيدة النثر قائمة على نوع من التحليل، أي أن
الذهنية جزء أساسي من قصيدة النثر، والذي يكتب قصيدة النثر، يتحول كفاحه إلى نوع
آخر، أي إلى إخفاء هذه الذهنية الملازمة جوهريا لقصيدة النثر.
الكتابة
النثرية - ضمن التعبير العربي - ردة فعل مقصودة وعنيفة ضد الانفعال السريع،
والعاطفية، وهي عملية إدخال العقل في اللعبة الشعرية. ولعل أهميتها تكمن - ضمن
إطار الشعر العربي - في هذا الشيء، أي في الذهنية.
العالم
شيئان - على حد تعبير الفيتاغوريين - عدد ونغم، أي أن للعالم وجها كميا هو العدد،
ووجها كيفيا هو النغم. النثر عدد، ولعل الكفاح العميق لقصيدة النثر هو أن تتحول
إلى نغم، غير أن الشعر موجود في العدد والنغم، أو فيما وراء العدد والنغم»[15].
إن
الأفكار التي يطرحها أدونيس في هذا المقام لجديرة بالاهتمام والتأمل، فهو لم يشأ -
فقط - أن يحدد موقع "قصيدة النثر"، بل كان واضحا وحاسما في تحديد
التمايز القائم بين الشعر والنثر، حيث جعل "النغم" خصيصة مميزة للشعر،
وهي نفس الخصيصة التي ميز بها كل من تناول هذا الموضوع، منذ فجر الشعر العربي. وفي
المقابل ربط النثر بالعدد وبالكم، ومن ثم، فإن الرهان المصيري لقصيدة النثر، من
أجل تحقيق إبداعيتها، هو التحول
والانتقال من الكم إلى الكيف، من العدد إلى النغم، من النثر إلى الشعر. فالإبداعية
تكمن في الشعر، الذي يظل جوهر الفنية والتنغيم، بمعنى أن جوهر النص يجب أن يكون
شعريا، بينما الشكل والمبنى يظل مرتبطا بالنثر. وهذا الأمر يؤكد لنا حقيقة أولى،
وهي أن الإبدال النهائي يخرج النص من جمهورية النثر ويدخله إلى مملكة الشعر. ثم
يؤكد لنا حقيقة ثانية، وهي أن الإسم المقترح لهذا النص الإبداعي يتضمن تركيبا
دلاليا غير سليم. فـ "قصيدة النثر" مكونة من مضاف، الذي هو
"قصيدة" - كما بينا سابقا - ومضاف إليه، والذي هو "النثر"،
وهذا يعني أن النثر يحوي الشعر ويهيمن عليه، ويبقى الشعر - فقط - في موقع المضاف
إلى النثر. في حين، يكون الصواب في رأينا هو العكس. أي أن الشعر هو المهيمن
والحاوي للنثر، فالعدد يجب أن يتحول إلى نغم - على حد تعبير أدونيس - لكي يصبح
للنص قوام إبداعي، ومن ثم، يذوب النثر ويتلاشى فيما هو شعري، حالاًّ فيه حلولا
تاما، فلا يطفو على السطح سوى الشعر. وعلى هذا الأساس فإننا نقترح إسما، أو مصطلحا
يساوق هذا التحول من العددي إلى النغمي،
فنقول "نثيرة الشعر"، حيث يصبح النثر مضافا إلى الشعر، وليس العكس.
4 - من النثر الشعري إلى الشعر المنثور:
بناء
على ما سلف من إيضاحات، فيما يخص التميز القائم بين الشعر والنثر، تكون طرائق
تشكيل كل فن أدبي قد انجلت أمامنا، وهكذا، فإن جميع التعالقات المحتملة يمكننا
تحديد طبيعتها، انطلاقا من مستويات تلك التعالقات ذاتها.
هكذا
يكون مصطلح "النثر الشعري" يتمايز ويتقاطع مع مصطلح "الشعر
المنثور"، فطبيعة التعالق القائمة في المصطلح الأول تترك سلطة شاسعة للنثر،
وهيمنة لا حدود لها، حيث يكون هو جوهر النص وروحه، أما الشعر فإنه تشكيل فني يضيف
لمسته السحرية، الشاعرية إلى فضاء النص، لكي يأخذ تميزا معينا عن النص المباشر، أو
النص الواقعي، ولعل أقرب تعريف لهذا اللون الأدبي هو ما عبر عنه خليل أبو جهجه
بقوله: «النثر الشعري فن، يعتمد بعدا في الخيال، وإيقاعا في التركيب ووفرة في
المجاز، وقوة في العاطفة، مما يغلب فيه الروح الشعرية»[16]. وهذا
اللون نجده في بعض الكتابات الروائية والقصصية، فنقول - على سبيل المثال - هذه
رواية شاعرية ... ، إلى غير ذلك من الكتابات التي تتخللها هذه الروح الشعرية، دون
إخراجها من موطنها النثري، بمعنى أنها تظل تحافظ على جنسها الأدبي الذي هو النثر.
وهو لون مفعم بالغنائية ومناجاة الذات، مع الميل الدائم إلى التأمل، وفي هذا يقول
أدونيس: «ليس للنثر الشعري شكل، وهو استرسال واستسلام للشعور دون نهاية. لذلك، هو
روائي وصفي يتجه دائما إلى التأمل الأخلاقي أو المناجاة الغنائية أو السرد
الانفعالي. ولذلك، يمتلئ بالاستطرادات والتفاصيل، وتنفسح فيه وحدة التناغم
والانسجام»[17].
أما
المصطلح الثاني، والذي هو "الشعر المنثور"، فإنه يأخذ اتجاها مغايرا
تماما، حيث يصبح الشعر فيه هو المالك لكل سلطة، وهو المهيمن على سياق الكتابة.
وبذلك، فإنه يكون جوهر النص الأدبي، ويكون النثر تشكيلا فنيا يساوق فاعلية جوهر
الشعـر فيه. وهكذا، فإن إقامته لا تبرح مملكة الشعر أبدا، بل تغـدو تلك
التشكيلات النثـرية - بقوة الشعر - شعرا
آخر. وإذا كان أدونيس قد قال بأن "النثـر الشعري" لا شكل له - كما هو
واضح في الشاهد السابق - فإن الشعر المنثور، أو قصيدة النثر لها شكـل محدد بدقة
متناهية، وفي ذلك يقول: «أما قصيدة النثر فذات شكل قبل أي شيء، ذات وحدة مغلقة، هي
دائرة أو شبه دائرة، لا خط مستقيم، هي مجموعة علائق تنتظم في شبكة ذات تقنية محددة
وبناء تركيبي موحد، ومنتظم الأجزاء متوازن.. هي شعر خاص يستخدم النثر لغايات شعرية
خالصة»[18].
هكذا
تتجلى لنا الحدود القائمة بين النثر الشعري والشعر المنثور وهي تساوق في الكثير من
تشكيلاتها تلك الحدود القائمة بين الشعر والنثر.
5 -
تعريف "قصيدة النثر" بين سوزان برنار وأدونيس:
يقول
رفعت سلام، استنادا إلى كتاب محمد جمال باروت "الحداثة الأولى" أن
أدونيس كان سباقا إلى تناول موضوع قصيدة النثر وذلك من خلال مقال له حمل عنوان
"في قصيدة النثر" منشور في العدد الرابع من مجلة "شعـر"
البيروتية (ربيع 1960)[19].
كما أن الشاعر أنسي الحاج يقول في مقدمة ديوانه (لن) إن أدونيس أول من تناول هذا
الموضوع بالعربية، ويذكر المجلة ذاتها[20]. ويظهر
أن هذا السبق الذي حصل عليه أدونيس كان يخفي وراءه العديد من الانعراجات، ولكن قبل
أن نشير إلى بعض هذه الانعراجات لا بأس أن نتأمل في التعريف الذي وضعه أدونيس
لنثيرة الشعر. فبعدما حدد شكلها، وهو الذي أوردناه سالفا، يعود فيتحدث عن خصائص
هذا اللون الإبداعي، فيحددها في ثلاثة نقط، وهي:
«أ- يجب أن تكون صادرة عن
إرادة بناء وتنظيم واعية، فتكون كلا عضويا، مستقلا. تكون ذات إطار معين. وهذا ما
يتيح لنا أن نميزها عن النثر الشعري الذي هو مجرد مادة. فالوحدة العضوية خاصية
جوهرية في قصيدة النثر.
ب- هي
بناء فني متميز. فقصيدة النثر لا غاية لها خارج ذاتها، سواء كانت هذه الغاية
روائية أو أخلاقية أو فلسفية أو برهانية .. فهناك مجانية في القصيدة. ويمكن تحديد
المجانية بفكرة اللازمنية.
ج-
الوحدة والكثافة. فعلى قصيدة النثر أن تتجنب الاستطراد والإيضاح والشرح، وكل ما
يقودها إلى الأنواع النثرية الأخرى»[21]. ويعلق
رفعت سلام على هذا الكلام قائلا: «كانت المرة الأولى - في الكتابة العربية - التي
تطرح فيها "قصيدة النثر" بهذه الدقة؛ ولعلها المرة الأخيرة. لكن المقالة
تعتمد - بصورة مطلقة - على ما كتبته "سوزان برنار" في مقدمتها، بلا
إضافة ذات بال، ودون اختراق للآفاق الشاسعة العميقة التي فتحتها، وأغلقت فيها وراء
القصيدة»[22].
والحقيقة
أننا حين نتأمل في كتاب سوزان برنار، وخاصة في المدخل، سنجد ملامح هذه المحاكاة
التامة والمتطابقة بين أفكار أدونيس حول "قصيدة النثر" وما جاءت به
سوزان برنار؛ فهي في بداية حديثها عن "قصيدة النثر" تحاول تحديد مفهوم
"قصيدة"، ولذلك تقول: «فإذا كان لمصطلح النثر معنى محدد تماما (كل ما
ليس بشعر فهو نثر)، فإنه لأكثر صعوبة بكثير الاتفاق على كلمة قصيدة، وقد يكون
مفيدا أن نوضح - من الآن - الشروط المحددة الواجبة تطبيقها، وخاصة عند الحديث عن
"قصيدة النثر"»[23]،
وهذه "الشروط المحددة" التي ستطرحها سوزان برنار هي نفس
"الخصائص" التي وقفنا عليها عند أدونيس، دون أدنى تغيير. بل حتى تحديد
أدونيس للنثر والشعر سنجد له جذره عند سوزان برنار، حيث تقول: «وتفرض قصيدة النثر
إرادة واعية للانتظام في قصيدة، لابد لها أن تكون كلا عضويا مستقلا، بما يسمح
بتمييزها عن النثر الشعري (الذي ما هو إلا مادة، وشكلا من الدرجة الأولى، نستطيع
-انطلاقا منه- تأليف دراسات وروايات وقصائد)»[24]. وحين
حديثها عن الشروط المحددة لقصيدة النثر، تشير أولا إلى "الوحدة
العضوية"، بمعنى أن القصيدة لابد أن تشكل كلاًّ، وعالما مغلقا. ثم، ثانيا،
"المجانية"، وهذا يتركنا نقبل بأن القصيدة » لا تفرض لنفسها أية غاية
خارج نفسها، لاسردية ولا برهانية«[25].
ومعيار "المجانية" مرتبط عند الكاتبة بمعيار صنو هو معيار
"اللازمنية"، بمعنى «أن القصيدة لا تتقدم نحو هدف ما، ولا تطرح سلسلة من
الأفعال المتتالية، لكنها تفرض على القارئ كــ " شيء"، ككتلة لا زمنية»[26].
ثم، هنالك شرط ثالث تراه برنار أكثر خصوصية لقصيدة النثر، وهو
"الإيجاز"، «فعلى قصيدة النثر -أكثر من أية قصيدة عروضية- أن تتجنب
الاستطرادات الأخلاقية أو أية استطرادات أخرى، والإسهابات التفسيرية، أي كل ما قد
يؤول بها إلى أنواع النثر الأخرى، كل ما قد يضر بوحدتها وكثافتها»[27].
هكذا
تتبدى لنا خصائص أدونيس، فيما يتعلق بقصيدة النثر، وكأنها نسخة طبق الأصل للشروط
المحددة التي وضعتها برنار لقصيدة النثر. ونعلم أن هذه الشروط وضعتها الكاتبة
لقصيدة النثر في صورتها الفرنسية. فهل هي ذاتها توائم صورة قصيدة النثر العربية؟
سؤال شاسع نقف أمامه خاشعين؟! وهذا ما يفضي بنا إلى مأزق الترجمة.
6 -
مأزق الترجمة:
يبدو أن
قَدَرَ هذا اللون الإبداعي ظل مرتبطا، منذ البداية، بالهجرات الآتية عبر الترجمة؛
فقد لاحظنا كيف أن أمين الريحاني سمى ما كتبه بـ "الشعر الحر الطليق"،
أو "الشعر المنثور"، وذلك انطلاقا من ترجمته للمصطلح الفرنسي (Vers Libre)، ثم المصطلح الإنجليزي
(Free Verse)، ولم يحاول إطلاقا
البحث عن تسمية من داخل النص العربي، بل رأى أن المكونات نفسها التي تميز هذا
اللون من الشعر الفرنسـي والإنجليزي، يمتاز بها نظيره العربي. وهو نفس الأمر
بالنسبة لأدونيس ومن صــار على منواله في تبني مصطلح "قصيدة النثر"، ولا
حاجة إلى القول إن هذا المصطلح هو ترجمة حرفية ومخلصة لعنوان كتاب سوزان برنار السالف
الذكر. وهو يكشف عن هجرة أخرى لاسم جديد، من تربته الفرنسية بالتحديد، إلى تربة
مغايرة هي التربة العربية، وفي ذلك نوع من اجثتات الجذور، وترويض الذات على مخيال
مختلف.
نقطة
أخرى تثيرها الترجمة، وهي ذات أهمية قصوى بالنسبة لبنية هذا اللون الإبداعي
المنفلت، هذا اليسمى "نثيرة الشعر"، وذلك حين نقرأ نصا من هذه النصوص،
فنحس وكأنه نص مترجم من لغة أخرى، وليس مكتوبا أصلا بالعربية، وهذا الشعور ينتاب
جل من يمارس قراءة "نثيرة الشعر"، ليس عندنا في العربية، بل حتى في لغات
أخرى. فسوزان برنار نفسها لاحظت - على
سبيل المثال - أن الكثير من نصوص الشاعر رامبو المنتمية إلى "قصيدة
النثر" تقترب من فضاء نصوص مترجمة عن الإنجليزية، أو عن غيرها من اللغات[28].
وهذا يؤكد أن "قصيدة النثر" عند برنار أو "نثيرة الشعر"
عندنا، هي شرفة باذخة من شرفات هجرات الحضارات وزواجها ببعضها البعض، وهي كذلك
دليل على التأثر والتأثير، والتفاعل الحاصل في الثقافات. ومن ثم، فإن "نثيرة
الشعر" ظاهرة إبداعية كونية تظهر في نقطة تماس الثقافات وتمازجها، انطلاقا من
بؤرة الترجمة. ولقد تشكلت في العالم، عبر التاريخ الحديث، نقط كبيرة لهذا التماس،
وما يهمنا في هذا السياق هو العالم العربي، ونرى أن نقطا مهمة، كان مركزها في مصر،
ولبنان، وسورية، والعراق، ونقول إن المغرب يشكل نقطة كبيرة إلى جانب تلك النقط،
وكانت "تطوان" تحديدا، هي هذه النقطة الكبيرة للتماس، فيما يخص
"نثيرة الشعر".
7 -
محمد الصباغ ونثيرة الشعر:
ليس من
قبيل "المجانية" أن نتحدث عن هذه المحاور كلها، والمتعلقة بـ"نثيرة
الشعر"، بدءا من "شعرية المضاف إليه"، وصولا إلى "مأزق
الترجمة". بل إن قصدنا من ذكر ذلك، كان هو التأكيد على أن هذه المسماة - في
لغات العالم - بـ"قصيدة النثر"، أو "نثيرة الشعر" إنما تتميز
بخصائص، وتعيش مراحل مخاض ضرورية قبل ولادتها، وتستدعي شروطا مضبوطة، ولها مظاهر
فنية ودلالية تستقطرها من ألوان إبداعية أخرى. ثم، إن قصدنا، كان كذلك - وهذا عين
مرادنا - هو أن نبحث عن العلائق الذاتية والموضوعية التي يمكن أن تربط أديبنا محمد
الصباغ بنثيرة الشعر، ربطا حميميا، يتميز بالعلمية وبالموضوعية أيضا، فلا يخامر
الناس أدنى إحساس أننا نريد إقحام بعض من أدب أديبنا في خضم هذا اللون الإبداعي
إقحاما.
والحق أن
المحاور التي عالجناها أكدت -إذا كانت هنالك بقية مما يستدعي التأكيد- على أن
المغرب يعد نقطة انطلاق صحيحة وحقيقية لنثيرة الشعر، على مستوى العالم العربي، في
شخص شاعره ومبدعه الأنيق محمد الصباغ، وذلك بناء على المقاييس التالية:
أولا:
كل النقاد والدارسين أجمعوا إجماعا تاما على أن كتابات الصباغ فيها من الشاعرية
ومن روح الشعر ما يبوئها إلى أن ترقى إلى مستوى الكتابات الشعرية المتألقة؛ فهي
تعتمد على الصورة التخييلية، وعلى توظيف الرمزية والإيحائية، واستعمال اللغة
الإشراقية الباحثة عن جوهر المثال في كينونات الأشياء. ولقـد حاولنا - قدر الإمكان
- في الفصول السابقة أن نحيط ببعض مكونات وسمات هذه الشاعرية الفوَّارة،
الدفَّاقة. وهذا يذهب بنا إلى القول إن محمد الصباغ امتلك، منذ البداية، ناصية
"النثر الشعري" والذي هو الخطوة الأولى في اتجاه "الشعر
المنثور".
ثانيا:
ظل الصباغ مولعا بالعبارة الموجزة، التي تختصر كل القول، وتكثف جميع الصور، وتلم العالم
في قبضة كلمة، ولم يكن يميل إلى الإطناب أبدا، ولا إلى التفسيرات والتعليلات
الهامشية، فحتى كتاباته المنتمية إلى "النثر الشعري" لم تكن مسترسلة
أكثر من اللازم، ولا مطنبة، بل كانت موجزة، ومكثفة، ودالة. ولعل هذه البلاغة
المكثفة والموجزة استمدها من ولعه الشديد بالنصوص التراثية الباذخة، وفي مقدمتها
القرآن الكريم الذي يعد إعجازا في الإيجاز والتكثيف الدلالي الجمالي. ونستأنس في
هذا المقام بقولة لنزار قباني جاء فيها: » إنني لا أعتقد أن قصيدة النثر هي نتاج
غربي، ففي القرآن الكريم تشكيلات نثرية تتفوق على أي نص شعري، كما في سورة مريم
وسورة الرحمن، وقصار السور. فلنترك للشاعر إمكانات جمالية وميلودية لا حصر لها«[29].
ولقد أشرنا سابقا إلى أن الصباغ ابتدأ بثقافة قرآنية عميقة، وظل القرآن قرة عينه
في فضاء القراءة. كما أنه ارتبط -لاحقا- بالنصوص الصوفية الأساسية، وتعلق بها
كثيرا، وهذا ما أذكى فيه روح الإيجاز والكثافة التصويرية، وهما سمتان بارزتان في
"نثيرة الشعر"، وبالتالي فإنه كان مؤهلا لارتياد فضاء هذا اللون
الإبداعي أكثر من أي مبدع آخر.
ثالثا:
لم يكن الصباغ غريبا عن فضاء "الترجمة" (الذي يعتقد أنه بؤرة قصيدة
النثر) بل كان أقرب الناس إليه، ولقد أشرنا في القسم الأول من هذا البحث إلى أن
محمد الصباغ كان يشرف على قسم الترجمة داخل مجلة (المعتمد)، التي كانت تديرها
الشاعرة الإسبانية طرينيداد شانتث مركادر من مدينة العرائش. وكان هو في تطوان
يشتغل في خلية أدبية كانت تعمل على نقل نصوص شعرية عربية إلى الإسبانية، كما كانت
تترجم نصوصا إسبانية إلى قراء العربية. ويجب التذكير إلى أن هذه المجلة تأسست عام
1947، حيث بدأ الصباغ يعيش مغامرة ترجمة الشعر، وهي المغامرة التي امتدت فترة
زمنية مهمة قبل أن تظهر للصباغ قصائد نثر أو نثائر شعر. وهذا ما يؤكد أن الاستفادة
كانت جمة على المستويات الفنية والتركيبية والدلالية، وما يؤكد -أيضا- أنه تأثر
بقراءته وترجمته للشعر الإسباني بخاصة، فانعكس ذلك في كتاباته اللاحقة، وبالتحديد
في قصائد النثر عنده. والمحصلة هي أن محمد الصباغ ارتبط في كتابة نثيرة الشعر
بفاعلية الترجمة، وهي فاعلية لها مشروعيتها الإبداعية والثقافية.
رابعا:
لقد أوضحنا في فصول سابقة أن تطوان كانت نقطة التقاء مستويين ثقافيين وحضاريين
متقاطعين ومتشاكلين، هما: المستوى الثقافي والحضاري الإسلامي العربي، والمستوى
الثقافي والحضاري المسيحي الغربي. وهذا الالتقاء خلق نوعا من التلاقح والتجدد
والتطور، مثلما حدث في لبنان، وفي مصر، وفي غيرهما من نقاط الالتقاء الثقافي
والحضاري. صحيح أن التفاوت حاصل من نقطة إلى أخرى. وصحيح أيضا أن نقطة (تطوان)
شكلت مركزا ثقافيا إبداعيا عربيا يصعب تجاوزه، فالمشارقة أنفسهم كانوا ينظرون إلى تطوان
إبان تلك الفترة بنفس العين التي كانوا ينظرون بها إلى بيروت، أو إلى القاهرة.
ولعل الكتابات التي خلدها أمثال: ميخائيل نعيمه، بولس سلامة، سعيد عقل، غادة
السمان، فدوى طوقان، إيليا أبو ماضي، شكيب أرسلان، وغير هؤلاء… لأعمق دليل على
الإشعاع الثقافي والإبداعي التطواني عصرئذ. وكل هذا شكل حافزا استراتيجيا لدى
المبدعين لكي يلجوا آفاقا إبداعية مغايرة، تستمد مقوماتها من هذا الالتقاء الثقافي
والحضاري، وكان الشعر بحق في مقدمة الآفاق المغامرة، متمثلا في شخص شاعرنا المبدع
محمد الصباغ.
خامسا:
بناء على ما سبق، لا ندعي أن قصيدة النثر مغربية محضة، مثلما يدعي إخواننا
اللبنانيون زورا وبهتانا، أنها لبنانية[30]. بل كانت
لنشأتها العربية تحولات متعددة ومتنوعة في جغرافية الشعر، ولدى أكثر من شاعر، نذكر
منهم، على سبيل التمثيل: علي أحمد باكثير، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمد منير رمزي
من مصر، ومحمد الماغوط وأدونيس من سورية، وألبير أديب، ويوسف الخال، وشوقي أبي
شقرا، وأنسي الحاج من لبنان، ومحمد الحداد، ومحمد الصباغ من المغرب، وغير هؤلاء من
آفاق شتى من وطننا العربي. وفي نفس الآن، نقول إن المغرب كان من أبرز رواد قصيدة
النثر العربية لسببين رئيسين:
السبب
الأول، هو أن الشاعر والمبدع محمد الحداد الطنجاوي، كان له السبق في التبشير
بكتابة نثيرة الشعر، حيث ظهرت كتاباته مبكرا، خلال ثلاثينيات القرن العشرين، وهي
تحمل مسحة شعرية متحررة من كل القوالب الجامدة، منفتحة على الإيحائية، مع الميل
إلى الإيجاز والتكثيف التصويري، ونشدان الوحدة العضوية في بناء النص، دون الارتباط
كثيرا في تناول مواضيعه بغاية معينة، وهذا هو شرط "المجانية" في قصيدة
النثر. والحقيقة أن كتابات محمد الحداد تعد بذرة مشعة من بذور قصيدة النثر
العربية، وهي لم تنل حظها -قط- من العناية والانتباه إلا فيما ندر[31].
ونأمل أن يبحث الدارسون في فصوص نصوص هذا الشاعر المبدع لاستجلاء تلك البذور
الندية.
أما
السبب الثاني، هو أن الشاعر محمد الصباغ أصدر ديوانه الأول »شجرة النار« عام 1955.
وكان قد صدر الديوان نفسه مترجما إلى الإسبانية قبل سنة، أي عام 1954. وهذا يعني
أن قصائد الديوان كتبت في جميع الأحوال قبل هذين التاريخين. أما في الشرق، فلم
يصدر إلا ديوان واحد حوالي 1954 لألبير أديب[32] من لبنان، ولم يكن مشتملا على قصائد النثر -فقط- كما في ديوان الصباغ، بل كانت هنالك نصوص
شعرية متنوعة تجمع بين قصيدة النثر، والنثر الشعري، والشعر العمودي، وجاء الديوان
بعنوان »لا«. أما أول ديوان مشرقي خصص بالكامل لقصيدة النثر، فهو لصاحبه محمد
الماغوط من سورية، وجاء تحت عنوان »حزن في ضوء القمر«[33]، وكان
ذلك سنة 1959، أي بعد الديوان الأول لمحمد الصباغ بحوالي خمسة أعوام، وبعده بسنة
واحدة، أي عام 1960، صدر من لبنان ديوان »لن« لأنسي الحاج، الذي سيحسبه سدنة مجلة
"شعر" البيروتية، ومن لف لفهم أنه فاصلة كبرى في تاريخ الشعر العربي،
وفاتحة مبينة في مشروع "قصيدة النثر". وبالحساب العددي والنغمي
الأدونيسي نجد أن ديوان "شجرة النار" هو أول ديوان عربي لقصيدة النثر،
ولا يوجد منافس له بالمرة.
وانطلاقا
من هذين السببين الوجيهين، فإننا نرى أن المغرب يمتلك ناصية الريادة وفعلها في
نشوء وتجلي قصيدة النثر العربية، وأن الشاعر المبدع محمد الصباغ هو "أبو
بجدتها" على حد تعبير الأستاذ الباحث حسن الوراكلي[34].
بعد هذه
التأملات، التي أكدت لنا ريادة محمد الصباغ لقصيدة النثر العربية، إلى جانب رموز
شعرية عربية أخرى، وإن ظل هو مالكا لجذوة السبق بديوانيه "شجرة النار"
و"أنا والقمر". نود الآن أن نستأذن شاعرنا للإبحار في لجج قصائده
النثرية أو نثيراته الشعرية، باحثين في دررها، مجلين لآليئها ويواقيتها.
8-
التشكيلات اللغوية والأسلوبية في "شجرة النار":
إذا كنا
نرى أن المجموعة الشعرية "شجرة النار" تنتسب إلى ما يصطلح عليه بـ
"قصيدة النثر" أو "نثيرة الشعر"، فإننا مطالبون بإبراز أهم
السمات الدالة على صحة هذا النسب. ولذلك، فإن البحث في التشكيلات اللغوية
والأسلوبية، سيقودنا - حتما - إلى تأكيد هذا النسب، أو نفيه. وبعد قراءة متأنية في
ديوان "شجرة النار" تبين لنا أن مقاربة هذه التشكيلات يمكن أن تأخذ
سياقات متنوعة، نذكر من أهمها:
أ -
التكثيف اللغوي
ب- التعبير الغامض
ج- معجم
اللغة الشعرية
ح-
شعرية "المضاف إليه"
د-
القصيدة الموجزة
وهناك
تشكيلات أخرى ذات أهمية قصوى، سنترك معالجتها إلى حين نقرأ الديوان الثاني
"أنا والقمر"، وهي جميعها تشكيلات لغوية وأسلوبية وفنية أيضا، تبرز
السمات المميزة للنص الشعري المنثور.
أ -
التكثيف اللغوي:
لقد
أشرنا سابقا إلى أن قصيدة النثر تتميز بالتكثيف اللغوي، والاختزال الأسلوبي، حيث
تصبح العبارة الموجزة والمختصرة محملة بما لا يحصى من الدلالات والمعاني، ونذكر في
هذا السياق أننا وقفنا - في كتابات محمد الصباغ التي عالجناها سابقا - على العديد
من مثل هذه التشكيلات الموجزة والممتلئة بالمعاني في آن. ولكننا في ديوان
"شجرة النار" نقف على تشكيلات أكثر إيجازا، وأعمق امتلاءا. فكأن الشاعر
يريد أن يقول كل شيء في عبارة واحدة، أو في تشكيل لغوي موجز واحد، مثال ذلك، نقرأ
في قصيدة بعنوان "اللغز":
ذاك سر
نفسي
لغز، رهن الحياة.
هكذا
أمي علمتني قبل الفطام:
أنظر
الأشياء في صمت،
وفي
قلبي لهيب.
فإذا
صحت، أو فررت، من شعاع لست أدريه.
همست في
أذني وغنت،
وسقتني
من كؤوس فيها حيرتي[35].
نلاحظ
أن الشاعر في السطر الأول وضع كل ما كان يريد أن يقوله عبر مفردتين، هما
"ذاك" وهو اسم إشارة، ثم "سـر"، وهذا أشد اختزال يمكن التعبير
بواسطته عن معنى معين، ونلاحظ كذلك أن الشاعر استعان في إملاء هذا التعبير الموجز
والكثيف بتوظيفه للرمز، وسيتضح لنا هذا الاتكاء على الرمز في السطر الشعري الثاني،
حيث سنكتشف أن مفردة "سـر" الموجودة في السطر الأول ترمز إلى "نفس"
الشاعر، التي ينظر إليها بوصفها لغزا يبعث على الحيرة، وهكذا كان الرمز سندا قويا
لتشكيل العبارة الموجزة والموحية والدالة، وهو نفس التشكيل الذي نلمسه عادة في
الكتابة الصوفية، التي تجعل من الرمز ملاذا ومسكنا.
ب-
التعبير الغامض:
قديما
تحدث الآمدي في الموازنة حول ظاهرة الغموض في الشعر، خاصة غموض المعاني، وغرابة
التركيبات. وكان هنالك صراع قوي بين مناصري الغموض ومناصري الوضوح، وهو ما يعكس
صورة أخرى من الصراع بين القديم والحديث، حيث كان المحدثون يميلون ميلا كبيرا نحو
الإغراب والغموض[36]. هذه إشارة عابرة تتركنا نلمس أن الغموض في
الشعر هو - أولا - ليس جديدا، ثم - ثانيا - إنه يرتبط بالشعر "الحداثي"،
أي باللون الشعري الذي يطمح إلى المغايرة والتجديد، والبحث عن أفق بكر. وهذا الطرح
يتناسب وحالة قصيدة النثر، التي تطمح إلى أن تكون تشكيلا شعريا مغايرا لكل ما سبق،
ولذلك، فإن الغموض والإغراب هما سمتان مميزتان لها. ونقف عند محمد الصباغ في ديوان
"شجرة النار" على ألوان من الغموض، نذكر منها:
أ-
التركيب السياقي الغريب/ ومثال ذلك ما جاء في قصيدة بعنوان "غلتي":
من
الناس من يزرعون أحلامهم في الشتاء،
لتورق
في الربيع مع الأزهار،
ومنهم
من يزرعونها في الصيف،
لتولد
على الشاطئ مع الشمس.
أما
أنا،
فأزرع
أحلامي في الخريف بين الجمر،
لأقطفها
بأسناني
من
اللهيب[37].
فهذا
النص يتحدث عن أحلام الناس واختلافها من شخص لآخر، ولذلك كان التركيب ينمو داخل
سياقه في صورة طبيعية تماما، وكأننا أمام لحظة رومانسية باذخة؛ فمن أحلام الربيع
مع الأزهار، إلى أحلام الصيف مع شمس الشواطئ، وكان في أفق انتظار القارئ أن يجد
أحلام الخريف تنثر وسط الأوراق المتساقطة، وبذلك تحافظ المعاني على سياقاتها
التركيبية الطبيعية والمنسجمة، إلا أن هذا لم يحصل، بل فاجأنا الشاعر بتركيب غريب
وصادم، أخرجه عن سياقه الطبيعي، وذلك حين ربط الخريف بالجمر، ووضعنا أمام هذه
الصورة الغامضة التي تحيل اللهيب إلى زهور تقطف بالأسنان، وهذا في حد ذاته تركيب
سياقي ضاج بالإغراب.
ب- غموض
المجاورة الدلالية/ وذلك حين نقف أمام صورة شعرية تتضمن معنيين متجاورين، يقنعنا
الشاعر في الظاهر أنهما متآلفين، وأنهما يفسران بعضهما البعض، ولكننا حين نعمق
البحث في طبيعة العلاقة التي تنبني على تجاورهما نجدها علاقة مشوبة بالغموض، لأنها
تنقل الفاعلية الدلالية من حالتها الحسية/المادية إلى حالة معنوية نفسية، نقرأ في
قصيدة "إليكم قلبي" هذا المقطع:
أوراق
الأشجار تيبس؛
أما
بذورها، فصدى الأرض المسترسل.
إن قلبي
ليجذبني إليه رويدا رويدا؛
لأذوب
فيه،
وأجسامكم
تعتلي أمامي[38].
فمهما
حاولنا أن نربط بين بذور الأشجار وبين قلب الشاعر إلا أن المعنى المنشود يظل
مكتنفا بالغموض في عمومه، وهو غموض جميل وشاعري، يصل بالنص إلى لحظته الشعرية
القصوى.
ج- معجم
اللغة الشعرية:
إن
اللغة من أهم المكونات الناسجة لشعرية النص، فلا يوجد شعر خارج اللغة، مثلما أننا
لا يمكن أن نتحدث عن فن الرسم خارج الألوان والأصباغ. إن هاته العلاقة الوجودية
الدالة هي التي تحدد شعرية أية قصيدة، ومن ثم، ظل الشعراء على امتداد العصور
والأزمنة يطورون لغتهم الشعرية، ويجتهدون في امتلاك معجم لغوي خاص ومتميز، ولا شك
أن قصيدة النثر تنفرد بمعجم لغوي معين، كما أن كل شاعر من شعرائها إلا ونراه يبحث
عن موقعه المتميز داخل هذا المعجم.
ويمكن
القول بصورة عامة، إن نثيرة الشعر فتحت الباب أمام مفردات جديدة لم تكن مستعملة في
الخطاب الشعري سابقا، كما أنها اعتمدت تراكيب جديدة كذلك، لم يألفها الشعر، وهي،
في عمومها، تراكيب مستوردة من فن النثر، كما أنها في بعض الأحيان مستنبطة من
التشكيلات اللغوية التي تنسجها الترجمة. وقد استفاد محمد الصباغ من كل هذا وبلوره
في خلق معجم شعري خاص به. نقرأ - مثلا - في قصيدة "الأحمق":
في
العشر السنين الأولى من حياتي،
رسمت
على جبتي المدرسية:
وطني؛
أنشودتي،
ومضيت
ناشدا …
وبعد
أيام هب الريح ومسح أنشودتي[39].
فهذه
المفردات في تركيبها تنتمي إلى مجال النثر، ولكن الشاعر برهافة حسه، وامتلاكه
لناصية اللغة الشعرية استطاع أن يخرجها من وضعها النثري إلى وضع شعري جديد، خاص
به.
ح-
شعرية المضاف إليه:
وهذه
سمة مميزة لقصائد الصباغ؛ فكل جملة شعرية إلا ونجدها مرهونة بالمضاف والمضاف إليه،
وقد أبدع أيما إبداع في ابتكار هذه التركيبات الشعرية الجميلة، التي
"تشعرن" المضاف إليه، وتخرجه من حالته اللغوية المحضة إلى حالة شعرية
موحية. نقرأ في قصيدة "كل هذا كان بالأمس":
في
الزمهرير لملمت شظايا الشمس
وقذفت
بها إليكم
وفي
الحرور كورت أكوام الثلج
واندفعت
بها إلى بيوتكم.
أفلا
تعقلون؟.[40]
فلو قال
الشاعر مثلا "لملمت الشمس" و"كورت الثلج" لما وصلت الفاعلية
الدلالية إلى عنفوانها الشعري، ولكن تركيبة المضاف والمضاف إليه في "شظايا
الشمس" و"أكوام الثلج" دفع بالصورة إلى عتبتها القصوى.
د -
القصيدة الموجزة:
الملاحظ
في ديوان "شجرة النار" هو الإيجاز الكبير الذي يهيمن على كل القصائد،
سواء على مستوى الأسطر، حيث يكون السطر الشعري قصيرا غاية القصر، كما في قصيدة
"النهر الجريح"، الذي نصادف فيها سطرا شعـريا على هـذا النحـو »وا
أسفاه«[41].
وهناك أمثلة عديدة في نفس السياق.
أما على
مستوى النص ككل، فإن الاختزال، والإيجاز، والتكثيف كانت السمات البارزة. وهذه
قصيدة بعنوان "في جزيرة أحلامي، " يقول فيها الشاعر:
في نهر
غنائي
مسحت
شفتي[42] من الألم،
لتنصتوا
إلي.
وقبل أن
أدخل إلى جزيرة أحلامي،
استنشقت
العبير،
لتنبثقوا
حول سريري،
وردا
وياسمينا.
ولحد
الآن لا زالت شفتاي
مخضلتين
بالألم،
ولا زال
عبيري يابسا في قلبي[43].
هكذا
يكون النص حاملا لعدد غير محصور من الدلالات في أسطر شعرية قليلة جدا. حيث تكتمل
القصيدة، وتبرز معالمها بجلاء.
9
- الصورة الاختزالية في "أنا
والقمر":
بعدما
قاربنا بعض السمات اللغوية والأسلوبية المميزة للخطاب الشعري في "شجرة
النار"، ها نحن نفتح ديوان الشاعر الثاني "أنا والقمر" آملين أن
نتمكن من ملامسة بعض مميزات الصورة الشعرية في تشكيلاته. ونرى أن هذه المميزات
تقوم أساسا على الإختزال، وأيضا على استدعاء استعارات جديدة.
أ -
امتداد الصورة الاختزالية
نقرأ في
قصيدة بعنوان "غفوة بيضاء":
ضممتك
في راحتي،
وألقيتك
في عيني.
ستفيقين
على نظرة:
تنقر في
الفجر
أجفان
الزهر[44].
هذه من
أصغر القصائد الموجودة في ديوان "أنا والقمر"، وهي تضم خمسة أسطر شعرية،
والمتأمل فيها سيقف على صورة شعرية واحدة تنسج فضاء النص، ابتداء بكلمة
"ضممتك" وانتهاء بمفردة "الزهر". وهي صورة "العين".
ورغم أن الشطر الأول لا يشير صراحة إلى العين، ولا إلى إحدى لوازمها، فإن صورة
"الراحة" تربطها علائق دلالية ومعنوية بالعين، بل إن كثيرا من التأثيرات
النفسية تربط بين راحة اليد وانفعالات العين. لذلك، فإن السطر الأول عينه يحوي
مكونا من مكونات صورة العين، وستظهر صورة العين بوضوح في السطر الثالث
"ستفيقين على نظرة" وهي ذات النظرة التي تنقر في الفجر أجفان
الزهر. بمعنى أن هذه النظرة هي التي ستنسج
مكونات صورتي السطرين؛ الرابع والخامس. لكن الذي يثير الانتباه، ويشد القارئ إلى مربطه
هو هذا التكثيف التصويري الباهر للعين، والذي أفصح عنه السطر الثاني، حيث يقول
الشاعر: "وألقيتك في عيني". إنه تعبير يختزل عددا لا يحصى من مكونات
صورة العين. لقد لَمَّ الشاعر بعناية فائقة جملة من العناصر التصويرية، وهي: »راحتي - نظرة
الفجر - أجفان الزهر« وصنع من هاته العناصر صورة حبيبته، ثم ألقى بهذه
الصورة في عينيه.
هذه
العملية المعقدة استطاع الشاعر أن يقدمها لنا عبر كلمتين اثنتين، وهما:
"ألقيتك" و"عيني".
وهذا أقصى ما يمكن للصورة الشعرية أن تحققه من اختزال، وفي نفس الوقت تحافظ على
اكتمالها وانسجامها. ومن ثم، فإن القصيدة حققت شعريتها المتألقة عبر هذه الصورة
الاختزالية الممتلئة إلى حد البياض.
من جانب
ثان، فإن الشاعر لم يضع سياجا منيعا حول هذه الصورة الاختزالية، بحيث لا نحس
بانقطاع أو انفصال بينها وبين باقي لحظات القصيدة. بل تركها تنساب وتمتد في عناق
حميم مع ضفاف القصيدة كلها. إذ تتحول إلى نظرة تنقر في الفجر أجفان الزهر، كما
أنها كانت قبل ذلك إضمامة في راحة الشاعر. ويجب أن ننتبه جيدا إلى أن عناصر هذه
الصورة تتساوق فيها المستويات الحسية والمعنوية في تفاعل متماوج، وليس أدل على هذا
من تلك النظرة التي تنقر الفجر، حيث تتحول النظرة إلى طائر له منقار ينقر به في
الفجر أجفان الزهر؛ فالحالة الانفعالية التي جعلت للنظرة منقارا هي ذات الحالة
التي منحت للزهر أجفانا. وهكذا يتضح أن فاعلية هذه الصورة الشعرية تقوم على تجاوز
المعاني المتشاكلة، ولا شك أن هذه المجاورة أوغلت بجمالية التصوير، وتركت الصورة
الاختزالية تتجاوز كثافتها، وتمتد نحو تشكيلات تصويرية مجاورة، دون أن تفقد تلك
الاختزالية من متانتها، وعنفوانها، وألقها.
ب -
طرائق جديدة لتوظيف الاستعارة
لقد
تحدثنا في فصول سابقة عن كيفية استدعاء الصباغ للاستعارة، حيث أصبح يمتلك خاصية
متميزة في هذا الباب، إضافة إلى استعمال الرمز. والحقيقة أن توظيف الصباغ
للاستعارة والرمز، ولباقي الصيغ البلاغية والفنية لم يأت اعتباطا. بل كان انعكاسا
طبيعيا لرؤيته الفنية والجمالية إلى العالم وإلى الأشياء والأفعال. ومن ثم، فإن أي
صورة استعارية أو رمزية إلا وتحوي رؤية خاصة للشاعر إلى قضية من قضايا الإنسان في
كينونته، سواء كانت قضية ذاتية أو موضوعية. وإذا كان ديوان "شجرة النار"
قد انفتح على قضايا وطنية وإنسانية ووجودية، فإن ديوان "أنا والقمر"، ظل
وفيا لدلالة عنوانه الرومانسية، والتصق بأغوار الذات التصاقا حميما وحانيا. ولذلك
آثر الشاعر أن يجعل من الاستعارة جوهر التصوير الفني الذي شكلن مجمل قصائد هذا
الديوان، ونلاحظ أن التشكيل الاستعاري عند الشاعر تميز بسمات دلالية واضحة، أهمها:
- دلالة إبراز المشبه في
صورة متسامية ومثالية.
- دلالة ارتباط المشبه
بالفاعلية المعنوية.
- إضفاء صفات المشبه به
على المشبه لاستجلاء التمثل الإيحائي.
- توليد صور استعارية
صغرى، أو ثانوية من رحم الاستعارة الكبرى، أو الاستعارة المركزية.
وهكذا،
فإن الصباغ استطاع بحسه المرهف، وشاعريته الأخاذة أن ينسج تشكيلا فنيا لنثيرة
الشعر له خصوصيته المتفردة، ولإبراز هذه الملامح، نقرأ قصيدة بعنوان:
"قطوف"، يقول فيها:
قطــوف
لأجني
زنابق خيالك؛
حررت
عشر حمائم.
ولأطل
على حياتك؛
صدقت من
عمري
خمس
سنين.
في حوش
الشمس؛
دفنت
ظلي الباكي؛
ورهنت
أثوابه لليل؛
ليجري
في لحمي دم القمر[45].
إن
المقطع الأول من هذه القصيدة يتكون من سطرين شعريين قصيرين. ورغم قصرهما، فإنهما
مكتنفين بتصوير استعاري يسمو بالخطاب الشعري إلى مستويات عالية جدا؛ فالوجه الأول
من هذا التصوير يكمن في طبيعة العلاقة القائمة بين كلمتي "زنابق"
و"خيالك"، ثم - أيضا - في نوعية الارتباط الذي خلقه فعل
"أجني"، وهكذا يظهر لنا أن المشبه به الغائب أو المحذوف له طبيعة حسية
لأنه ترك لنا لازما من لوازمه وهو فعل "أجني"، والشاعر استعار هذا الفعل
الدال على الحسية، وغَيَّرَ سياقه الدلالي، حيث أصبح مرتبطا بحركة معنوية متمثلة
في "زنابق خيالك" والتي هي صورة المشبه؛ فهو شبه الخيال بالحديقة، وشبه
الزنابق بالزهور، ومن ثم تحول المشبه به الحسي إلى مشبه معنوي. وفي السطر الثاني
تحولت كلمة "حمائم" إلى رمز دال على المحبة والتضحية التي يجب أن تقدم
قبل الإقدام على عملية الجني، سواء كانت حسية أو معنوية.
وفي المقطع
الثاني، الذي يضم ثلاثة أسطر شعرية تتمركز صورة استعارية أخرى، وهي تتشكل، بدءا،
من نوعية العلاقة الجامعة بين فعل "أطل" و"حياتك"؛ فالإطلالة
تكون على مكان معين، وليس على حياة، وهذه استعارة قريبة، ولكن الذي سيدفع بها إلى
الأقاصي هي الجملة التي تليها، حيث يقول فيها الشاعر»صدقت من عمري خمس سنين« وهي
جملة إبدالية ترهن إطلالة الشاعر على حياة حبيبته بأن يصدق من عمره خمس سنين، وهذه
معادلة رمزية تجعل التصوير الاستعاري أكثر تعقيدا، وأعمق غورا.
أما في
المقطع الثالث، فإن القمر هو الصورة المتخفية للحبيبة، وهذه استعارة قديمة، وهي
استعارة مركزية في هذا المقطع أو استعارة كبرى، ولكن الشاعر استطاع أن يولد من
أغوار هذه الاستعارة المستهلكة استعارات صغرى أو ثانوية لها جدتها وطراوتها،
استطاعت أن تخرج النص من رومانسيته العادية، وأن تدلف به إلى جهات جديدة ومغايرة،
وكان توظيف مفردات بذاتها عاملا حاسما في توليد هذه الاستعارات الجديدة، وهذه
المفردات هي:» حوش - دفنت - ظلي - رهنت - لحمي - دم «.
إن جملة " حوش الشمس " تتضمن استعارة
ثانوية، وكذلك جملة " دفنت ظلي الباكي "، فكيف يمكن للظل أن يبكي، بل
كيف لنا أن ندفن الظل؟! كما أن التجرد من الأثواب ورهنها لليل يشكل استعارة أخرى،
ثم أخيرا كيف نتصور جريان دم القمر في لحم الشاعر. إن الذي يجري هو ضوء القمر وليس
دمه. أما الدم فإنه يجري في العروق وليس في اللحم، ثم إن ربط الدم بالقمر إنما هو
بعث الحياة في كوكب القمر، وهذا تصوير استعاري يتحول إلى رمز متسامي.
إن هذه
التوظيفات الاستعارية الجديدة تفرد بها محمد الصباغ في عموم كتاباته، وفي نثيرته
الشعرية بخاصة، فأصبحت من أبرز السمات التي تميز نثيرة الشعر الصباغية.
10 -
إضـاءة:
من خلال
الديوانين الآنفي الذكر، وقفنا على ملامح قوية الدلالة تبرز تألق محمد الصباغ في
كتابة نثيرة الشعر، وهي ملامح بوأته ريادة هذا اللون الشعري في الأدب العربي
الحديث. ونود أن نشير إلى أن مغامرته الشعرية هذه لم تكن صدفة، أو اعتباطا، أو دون
وعي منه، بل كان عارفا بارعا بمنعرجات الطريق الذي هو سائر فيه. ويمكن أن نستشف
هذا من خلال جملة من الآراء الوجيهة التي قال بها في عدة مناسبات، نذكر منها حديثه
عن الشعر الحر، حيث يقول: » ... وها هو الغرب قد سبقنا إلى كتابته منذ أجيال
بعيدة، فهذه إسبانيا بشعرائها، لا تفرق أبدا بين الشعر المنظوم والشعر المنثور،
والمائة في المائة من شعرائها المعاصرين يكتبونه، وهذا أكبرهم وأشهرهم Vicente Aleixandre عضو المجمع الملكي الإسباني الذي حمل لواء
التجديد في إسبانيا، وشعره يعتبر في الطليعة...«[46]. ونستطيع
أن نقول إن محمد الصباغ تأثر كثيرا بهذا الشاعر الإسباني الكبير أكثر من تأثره بأي
أديب مشرقي، خاصة فيما يتعلق بالشعر المنثور أو نثيرة الشعر. ولقد كانت مصاحبته
الطويلة لهذا الشاعر الإسباني أثناء زيارة هذا الأخير لمدن شمال المغرب، ذات أثر
فعال وقوي في توقد حس شاعرنا نحو كتابة نثيرة الشعر. والأكيد أن الحوار العميق
الذي دار بين الشاعرين حول المفاهيم الشعرية في كل من إسبانيا (الغرب) والمغرب
(العرب) كان حافزا مهما، وباعثا حقيقيا على دفع شاعرنا إلى البحث عن طرائق جديدة
ومغايرة لكتابة الشعر تساير اللحظة الحداثية الكونية. فمن جملة الأسئلة التي وجهها
(فثنطي ألكسندري) للصباغ كان استفساره حول غياب الشعر المنثور عن الساحة الأدبية
العربية، وفي ذلك يقول: «... وكنت ألاحظ اهتمامه الكبير بالشعر العربي المعاصر
منصتا وسائلا. لقد طال استغرابه عندما أجبت عن سؤاله حول الشعر المنثور، ذاكرا له
بصراحة: أسفا أن نرى الأقلام الشعرية العربية ما زالت سجينة بين النونيات،
والداليات... »[47].
وفي جواب الصباغ هذا تأثر واضح بأفكار ميخائيل نعيمه، الذي كان يدعو إلى التحرر من
الأوزان والقوافي. ولكنه تأثر ينسحب في المقام الأول على كتابات الصباغ الأخرى،
مثلما هو الشأن في (اللهاث الجريح) و(العبير الملتهب)و(شلال الأسود). أما في هذين
الديوانين، فإن التأثر بالشعر الإسباني كان جليا، خاصة وأنهما كتبا في نفس الفترة
التي كان فيها الصباغ منهمكا على ترجمة الشعر من وإلى الإسبانية في مجلة المعتمد،
وبعض المجلات الإسبانية - كما أشرنا إلى ذلك - ولقد مر بنا القول أن الترجمة تعد
حافزا قويا لولوج كتابة نثيرة الشعر. ثم إننا نمتلك إشارة قوية أخرى من جملة
الإشارات التي تؤكد تأثر شاعرنا في هذا اللون الإبداعي بالغرب وبإسبانيا خاصة،
وذلك حين آثر نشر ديوانه الأول "شجرة النار" بالإسبانية قبل سنة من نشره
بالعربية، فما هو سر هذه الهجرة الإبداعية؟ يقول عبد العلي الودغيري عن إخراج
الديوانين معا باللغة الإسبانية قبل العربية «... ولست أدري السبب الذي جعل الشاعر
يخرجهما مترجمين إلى الإسبانية قبل إخراجهما بالعربية التي كتبا بهما في الأصل،
إلا أن يكون الدافع هو تهيبه في البداية من صدم الذوق العربي في المغرب الذي لم
يكن قد تعود على قراءة واستساغة القصيدة النثرية... »[48].
والحقيقة
أن هذا الإحساس ظل يخامر الشاعر لفترة طويلة، ولقد وقفنا في فصول سابقة على الكثير
من التحرشات والسخرية التي كان يلقاها صاحبنا من طرف التقليديين الذين كانوا
يشكلون القوة الضاربة في الثقافة العربية بالمغرب عصرئذ. والذي يؤكد هذا، كون
الديوانين لقيا في إسبانيا ترحابا واحتفاءا منقطعي النظير، ولكن حين تقديمهما إلى
قراء العربية بعد ذلك لم ينبس أحد ببنت شفه ، وهُمِّشَا تهميشا فظيعا ترك أثره في
نفسية الشاعر. وهذا يدل على أن صاحبنا كان واعيا بحجم المغامرة التي هو مقتحم
لظلالها. أما الاهتمام الذي حظي به في إسبانيا، فقد عكسته الكلمة التي تصدرت ديوان
"شجرة النار" في طبعته العربية، حيث جاء فيها: «في السنة الماضية صدر
هذا الديوان مترجما إلى الإسبانية وقد أحرز على الجائزة الشرفية لمسابقة (النحات
خوسي ماريا بالما) الإسبانية. بعض قصائده نشرت في المجلات الشعرية الإسبانية،
والبعض الآخر ألقي في النوادي الأدبية وأذيع في الراديو بإسبانيا»[49].
وكان يهدف الشاعر من وراء تصديره هذه الكلمة إبراز المكانة الرفيعة التي لقيها
ديوان "شجرة النار" لدى القارئ الإسباني، ومادام أنه ديوان مكتوب أصلا
بالعربية، فإن القارئ العربي بالمغرب وخارجه سيكون أكثر احتفاءا به. إلا أن العكس
هو الذي حصل ! ونتيجة لعمق تأثره بالشعراء الإسبان وعلى رأسهم فثنطي ألكسندري جاء
ديوان "شجرة النار" في الترجمة الإسبانية متصدرا بكلمة رقيقة وحميمة
لهذا الأخير يقول فيها: «شعر محمد الصباغ له بالنسبة إلي عطر الأجداد، وإشعاع صادر
عن قلب معاصر. فهناك شيء يجمع بيننا في صوت شاعر اللغة العربية الشاب الذي يعلى
بين قومه أغاني ذات طابع خاص، حاملة كثيرا من العاطفة الشخصية الحزينة، ذات
الأصباغ المتنوعة، والمفصحة عن المتانة المضاءة»[50].
وإذا
كان وفيا لتأثره بهذا الشاعر الإسباني الكبير، فإنه لم ينف تأثره واحترامه لكبار
أدباء المشرق، ومن جملتهم ميخائيل نعيمه، الذي يثبت له في ثنية ظهر غلاف نفس
الديوان "شجرة النار" في طبعته العربية هذه الكلمة العميقة، التي جاء
فيها: «في المغرب العربي نهضة أدبية تبشر بالخير. ومن ألمع رجالها اليوم محمد
الصباغ. فهو كاتب تتفجر عواطفه وأفكاره من شق قلمه، عنيفة، صاخبة. ولذلك نراه
يتنكب العادي والمألوف من قوالب البيان. إذا نظم فبغير وزن وقافية كما تشهد
مجموعته الشعرية المترجمة إلى الإسبانية بعنوان
El Arbol de Fuego (شجرة النار) وقد صدرت
في هذا العام. وإذا نثر كسا مفرداته وعباراته حللا من الألوان بين زاهية وقاتمة،
ثم أطلقها تدرج على أوتار تعددت مفاتيحها، وتنوعت قراراتها. أما القرار الغالب في
نظمه ونثره فهو الأسى - أسى الأمل المخدوع والحلم الهارب. وذلك هو شأن
الرومنطيقيين»[51].
بين
فثنطي ألكسندري وميخائل نعيمه تنمو صفصافة سامقة إسمها محمد الصباغ، ومن توهج
جذوتهما أوقد الصباغ فانوس قصيدة النثر أو نثيرة الشعر العربية في حلتها الأولى
الكاملة، فأومضت زنبقتين متلألئتين، أولاهما اسمها "شجرة النار"
وثانيتهما "أنا والقمر".
وهذا لا
يعني إطلاقا أن الصباغ كان مقلدا للأديبين أو غيرهما، بل إنه صورة مغايرة للتأثير.
إنه طينة أخرى، ذات إبداعية لم تفصح سوى عن ذاتها هي، عن كينونتها الخاصة
والمتفردة. لذلك كان شعره يعكس بصدق هاته الكينونة الصباغية، ليس إلا. وهو في
شعره، مثلما في تصوره حول الشاعر، يعود دائما ليحتمي بكينونته. نراه يقول في
الشعر:
«الشعر الجميل خلق لا
صناعة»[52].
وقال أيضا «الشعرور يغرق في البحر البسيط، وهو يستغيث ويستنجد متعلقا بالوزن:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن
وهكذا
طوى الصباغ الأبحر الطويلة كلها طياّ برشّة ملاك تسنيمية، حتى يتسامق نحو أفنان
الشعر الخالد، غير ملتفت إلى خشاش البحور "البسيطة".
[3] - نقلنا تاريخ المقالتين
لكل من أمين الريحاني، وميخائل نعيمه من كتاب "الحداثة الشعرية العربية"
للدكتور خليل أبو جهجه، مرجع سبق ذكره، يرجع إلى صفحتي: 129/130.
[5] - سنعتمد، هنا، ترجمة:راوية
صادق، مراجعة وتقديم: رفعت سلام، دار شرقيات، دراسات ثقافية أجنبية، القاهرة،
1998. ونود أن نشير إلى أن هذا الكتاب لم يترجم من قبل بصورة كاملة إلى العربية،
فكل ما كان هنالك ترجمة ناقصة جدا، ومجتزئة، ومبتورة ، صدرت ببغداد عن دار المامون
عام 1993. وهذه تعتبر أول محاولة لنقل هذا الكتاب إلى العربية، والغريب أن مجلة
"شعر" وجماعتها اعتمدت اعتمادا مطلقا على ما جاء في هذا الكتاب للتدليل
على سمات ومكونات "قصيدة النثر"، ولكن دون ترجمته كاملا، وهذا يعني
الرغبة في الاحتفاظ بسره، وامتلاك شفرته دون باقي القراء العرب. فلقد ظل أدونيس
يعيد زمنا ليس باليسير آراء وأفكار سوزان برنار دون أن ينتبه إلى ذلك أحد، وكأنه
فتح جديد في أفق مفهوم الشعرية العربية، مثال ذلك: "الكشف"
و"الرؤيا" و"التجاوز" و"النار"، وغيرها من
المصطلحات التي نجدها عند هذه الكاتبة الفرنسية.
[7] - هذه الإشارة موجودة في
الترجمة العربية لكتاب "قصيدة النثر من بودلير حتى وقتنا الراهن، مرجع سبق
ذكره ، انظر تقديم رفعت سلام، هامش رقم 23، ص: 25.
[10] -سبق وأن وظفنا في الفصل
السابق، وبالتحديد في محور "المسألة الأجناسية"، نفس النصوص القديمة
التي تتحدث عن الفواصل القائمة بين الشعر والنثر، ونظرا لقيمتها المعرفية
والتاريخية فيما يتعلق بقصيدة النثر، فها نحن نتأملها من جديد، ونستأنس بظلالها
تحت هجيرة النثيرة.
[11] -أبو الحسن حازم
القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة،
دار الغرب الإسلامي، ط/3،بيروت، 1986، ص: 71.
والظاهر من هذا الكلام، أن مركز الكون بالنسبة للنقاد والأدباء
اللبنانيين فيما يخص "قصيدة النثر"، هو مجلة "شعر" البيروتية،
والقائمين عليها، ولعل مقال أدونيس "في قصيدة النثر" والمنشور بالمجلة
عام 1960، والذي هو في الأصل منقول عن سوزان برنار، هو الذي ولد هذا الوهم الكبير
والخطير، وبعدما تمثله باقي شعراء مجلة "شعر" وتغلغل في كيانهم صار
حقيقة لبنانية ليس لها صنو. وكأن اللبنانيين لم يرضوا بريادة العراقيين في قصيدة التفعيلة، فظلوا يبحثون عن
غارة مضادة، وأخيرا وجدوا ضالتهم في "قصيدة النثر" بعدما هدتهم سوزان
برنار إلى سواء السبيل بكتابها المقدس.
[33] -لسنا ندري هل هي الصدفة
الشاعرية أم توارد الأخيلة، فقد أصدر محمد الصباغ ديوانه الثاني تحت اسم:
"أنا والقمر"، سنة 1956. وبعده بثلاث سنوات سيصدر محمد الماغوط ديوانه
هذا تحت اسم "حزن في ضوء القمر" فهل قصيدة النثر العربية كانت على موعد
مع القمرين، واحد من سورية والآخر في المغرب، هل هو قمر يستضيء بقمر؟ !
أدامكم الله لنا ، ويسر طريقك استاذي العزيز
ردحذف