|
|
شعر
مغربي حديث الموسم الجامعي: 2011/2012
التحديث الشعري بالمغرب
"محمد الصباغ
نموذجا"
|
1-
المؤثرات الأدبية الخاصة
1-1- فضاء تطوان:
1- 1- 1- النشأة:
بعد سنوات قليلة من انحصار الحركة الجهادية
الشعبية الجبلية، بزغ فجر أديبنا محمد الصباغ، وكان ذلك لحيظة حلم مشرئب من إحدى
شرفات تطوان المخضوضرة، ذات عشية أنيقة من عشايا 1929 - وهو تاريخ له أكثر من
دلالة في مسير التحولات المهمة التي عرفتها المملكة المغربية عموما، والمنطقة
الخليفية خصوصا - كما أن تطوان بصورة أخص، كانت قد بدأت تتأهب لولوج المرحلة
الثانية، التي تحدثنا عنها، والمتعلقة بظهور مستويات مغايرة وجديدة لتشكل الوعي
الذاتي والموضوعي، انطلاقا من الحمولة الثقافية والسياسية التي أصبحت سائرة في نمو
متسارع. وللوهلة الأولى يبدو أن محمد الصباغ كان له حظ وافر، منذ لحظة ولادته، حيث
هيأت له البيئة الثقافية المتجددة مناخا ملائما، لكي ينمو هذا الطفل، ويفتح عينيه
على تشكلات إبداعية متفاوتة في مجالات الأدب والمعرفة. والشيء الذي أفاض كأس الحظ
في مسير هذا البرعم الندي، هو كون ولادته كانت في أحضان بيت عالم، ورث العلم
والثقافة والفقه والأدب والأخلاق أبا عن جد، فلا شك - إذن - أن يحظى الصبي بتربية
قويمة، قوامها المنهاج العلمي السديد، والارتباط بالتراث الأدبي والديني، حتى يكون
خير خلف لخير سلف. وفي هذا السياق، يظهر أن اختيار اسمه "محمدا"، كان
أيضا يسير في هذا المنحى؛ فقد اختار الوالد هذا الاسم الشريف لمولوده السعيد، الذي
كان يحمله هو نفسه، وفي هذا الاختيار أكثر من دلالة لما ألمحنا إليه، فيما يخص
توجيه الابن توجيها يطمح إلى تسلق سلم العلا والتسامي، حتى يظل غصن شجرة العائلة
مخضرا يانعا، وغضا طريا على مر الزمن، والواقع أن رجاء الوالد لم يخب في ابنه
البار، بل صار في العلا غصنا متلألئا، ينثر من شرفاته البهيات ملايين النجمات
الخالدات. وهذا لا يعني أن الوسط العائلي الذي نشأ فيه الصباغ هو الذي أهله ليصبح
أديبا فيما بعد، لأن الوسط وحده لا يصنع شخصية الأديب، إذا لم تتوفر فيه الشروط
الأدبية، وأول شرط من هذه الشروط؛ الموهبة، ومن الأكيد أن صاحبنا قد حباه الله
بموهبة فطرية، وتظافرت محفزات الوسط الذي نشأ فيه لبلورة هذه الموهبة، وصقل
مقوماتها الفنية والجمالية، وجلاء طاقاتها وإمكاناتها الذاتية الكامنة.
1- 1- 2- التعليم:
لقد كان الفقيه محمد الصباغ، والد صاحبنا،
متشبعا بثقافة دينية عميقة. كما كان متبحرا في العلوم الفقهية والشرعية، وكان ذلك
سببا وجيها ليتقلد عدة مناصب في زمانه، ما بين القضاء والإمامة والتدريس، ومن
البديهي أن يكون هو أول مدرس لابنه، وهكذا حفظ أديبنا القرآن الكريم، وتلقى جملة
من الدروس المتعلقة بشرحه، وتفسير الأحاديث النبوية، وغيرها من الأمور المحسوبة
على الدراسة الدينية. فكانت هذه المرحلة الأولى بمثابة اللبنة التي وضعت أساسا
صلبا وقويا لما سيأتي من إضافات معرفية وأدبية، بل إن لغة الصباغ، المرشوش أسلوبها
بمنمقات صوفية سامقة، ظلت تستمد عبقها هذا من ذلك المخزون العميق والكامن في
اللاوعي، والذي ما هو إلا رجع صدى لتلك المرحلة الحميمية والمتميزة في حياة
أديبنا، والتي يتحدث عنها بروحانية سجية وآسرة في ربوع سيرته الذاتية ذات النفس
الزنجبيلي، السلسبيلي[1].
ولا شك
في أن لغة القرآن الكريم، وأساليبه البليغة الفتانة، وتوظيفاته البلاغية، المجازية
المتسامقة، وبناءه القصصي المحكم، كل هذا أثر أيما تأثير في نفسية أديبنا، وأصبح
متمثلا مفتونا بجماليات التصوير القرآني وبإشراقاته الأسلوبية الخلاقة[2]،
بل إنه أصبح مسكونا بهذا الفضاء القرآني البديع، وغدا هو زاده الأوفر، الذي لا
ينضب في كل مراحل مسيرته الحياتية[3].
ومن المعلوم أن علم النفس الحديث أكد على أن مرحلة الطفولة تترك بصمات واضحة في
أعماق النفس البشرية، حيث تظهر انعكاساتها في العديد من تجليات المراحل المقبلة في
حياة الشخص، وطفولة أديبنا كانت نسغا يانعا نديا، امتدت شعابه، وغطت بظلالها
الوارفة على باقي المراحل من العمر، ولهذا نجده - وقد أقبل على إتمام ربيعه الستين
- يحن بقلبه الطفولي إلى "الطفولة الستين".
بعد مرحلة "الكُتّاب" الذي تتلمذ فيه
على يدي والده المرحوم، نراه يلج في سلك الدراسة الابتدائية، حيث التحق بالجمعية
الخيرية من خلال مدرستها الابتدائية، وقد تأسست هذه الجمعية عام 1931، وهي جمعية
حرة أسسها مجموعة من الوطنيين، إلى جانب جمعيات أخرى مثيلة، وبلغة حديثة يمكن
وصفها بكونها مؤسسة تابعة للمجتمع المدني، وقد أنشأت هذه الجمعيات العديد من
المدارس والمعاهد الحرة، التي اشتهرت بصفة "التعليم الحر"، وحتى نكون
أمام صورة واضحة المعالم لهذا النوع من التعليم الذي انتشر انتشارا واسعا - عصرئذ
- بتطوان بخاصة، وفي باقي أنحاء المغرب بعامة، فإننا نستأنس بهذا النص الدال،
والذي يحلل فيه الدكتور إدريس خليفة بواعث وأسباب نشأة هذا النوع من التعليم،
وكذلك وظائفه وأهدافه:
«نشأ هذا التعليم على
أيدي الوطنيين المغاربة، الذين شعروا بأن التعليم الرسمي خاضع لنفوذ الحماية
وتوجيهها وتخطيطها، فكان من الضروري إيجاد نوع جديد من المدارس العربية التي تكون
نوعا من المثقفين الوطنيين، الذين يحسون بمسؤولياتهم إزاء وطنهم، والذين يستطيعون
أن يعملوا على نموه وتقدمه وتحرره بما يحصلون عليه من ثقافة عصرية موازية للثقافة
التي تؤخذ في المدرسة العصرية، وغير خاضعة للهيمنة الاستعمارية، ولقد كان نموذج
المدرسة الحرة التي اتجه الوطنيون بتطوان لتأسيسها متطابقا مع نظام وتعليم المدارس
بالمشرق التي كانوا مطلعين على برامجها وطرق التربية المطبقة فيها، وذلك أن
النموذج المتبع هو خلق المدرسة العربية التي تحافظ على المقومات الروحية للأمة،
وتربي الأجيال تربية إسلامية، وتقدم لهم تعليما عصريا على أساس دراسة المواد
العلمية الحديثة من حساب وجبر وعلوم فيزيائية وكيميائية وجغرافية وغيرها»[4].
وهكذا يظهر أن "التعليم الحر" الذي
أشرفت عليه جمعيات تابعة للمجتمع المدني كان له دور كبير ومهم في تنشئة الأجيال
تنشئة مجللة بالروح الوطنية، وبالإرتباط بالتراث، وبمقومات الأمة؛ الدينية
والخلقية، وكذلك بالانفتاح على التطور العلمي في مختلف الاتجاهات والميادين. وبحثا
عن صورة أكثر اكتمالا، سنورد نصا مغايرا، وهو للأستاذ عبد العلي الودغيري، الذي
يقول فيه:
«(...) ومن هذه الجمعيات
الوطنية التي تأسست في كبريات المدن المغربية، مثل: فاس، الرباط، طنجة، وتطوان،
انبثقت فكرة فتح المدارس والمعاهد الحرة في منطقتي المغرب الشمالية والجنوبية،
لمناهضة الفكر الاستعماري الذي يغرسه الأسبان والفرنسيون في أبناء المواطنين
بمدارسهم التي أسسوها وأرغموا الناس على ولوجها، لتثبيت وجودهم وتعزيز إدارتهم
بموظفين من أبناء الأعيان، يتكفلون بتطبيق سياستهم وتنفيذ أوامرهم. فكان على هذه
المدارس الشعبية الحرة، أن تعمق الوعي السياسي والفكري في تلامذتها، وتعرفهم بماضي
أجدادهم وسالف حضارتهم، وتربيهم على حب الوطن، ومقدسات البلاد، وكان على هؤلاء التلاميذ
المتخرجين، أن يبثوا الوعي بدورهم فيمن حولهم من أبناء الطبقة الشعبية المحتكة بهم»[5] .
فالتعليم الحر، يعد صنفا ثالثا من أصناف التعليم
التي كانت موجودة بتطوان، والذي كان يبحث عن تميز له داخل هذه الأصناف الثلاثة،
ويبدو أنه - فعلا - استطاع أن يتميز ويتفرد انطلاقا من روحه الوطنية، وانطلاقا
أيضا من انفتاحه على المناهج العصرية الحديثة، والطرق العلمية الجديدة، وانطلاقا -
كذلك - من توجهه الشعبي الذي كان يطمح إلى غرس بذور الوعي السياسي والثقافي داخل
فئات عريضة من المجتمع. وهو بهذا، يكون قد اخترق، وهدم ذلك الجدار التقليدي
المتين، الذي كان يحجب العلم والمعرفة على أبناء الشعب عموما، ويحصرهما في أبناء الأعيان،
الذين يشابهونهم.
يظهر أن الفقيه محمد الصباغ، الوالد، كان يحمل
في أعماقه روحا ثورية أصيلة، لذلك قرر أن يسجل ابنه بالمدارس الشعبية الحرة، حتى
يتسنى لهذا الابن النمو والترعرع داخل فضاء مفعم بالحس الوطني، وبالالتحام بقضايا
الأمة، وتطلعات مختلف الفئات الاجتماعية. فكانت الجمعية الخيرية أفضل مثال لتجسيد
هذه الصورة المشرقة. وكانت قد تأسست سنة 1931 بمبادرة من مجموعة من الوطنيين، وعلى
رأسهم الأستاذ محمد الخطيب، ولقد أنشأت هذه الجمعية مدرستين ابتدائيتين كانتا من
أهم المدارس الإبتدائية العصرية الحرة الرائدة بتطوان. الأولى تأسست حوالي عام
1934 وكانت خاصة بتعليم البنات، والثانية تأسست في غضون السنة الموالية، أي عام
1935. وكانت خاصة بتعليم البنين، وهي المدرسة التي خطى فيها أديبنا أولى خطواته
على درب الحياة التربوية والتثقيفية خارج سياج البيت، وخارج الأفق الديني الذي فطم
عليه.
فاعتبارا
للطرق التلقينية الجديدة التي اتبعتها هذه المدرسة، وكذا المواد المستحدثة والتي
أدمجت في برامجها، واعتبارا لنوعية المدرسين الذين باشروا مهمة التدريس داخل هاته
المدارس، الذين لم يكونوا يخضعون في الغالب الأعم لهيمنة وسطوة إدارة الحماية وأعوانها،
وبالمقابل فإنهم لم يكونوا خاضعين لهيمنة المناهج التقليدية المغلقة، التي كانت
سائدة في مدارس التعليم الديني، فان هذه المدارس استطاعت أن تنسج فضاءا جديدا
تماما. وبمعنى آخر، فإن هذه المدارس والمعاهد الحرة كانت سيفا ذا حدين، فالحد
الأول مزق أشلاء الهيمنة الإستعمارية، واخترق حصار الوصاية الماكرة لسلطات الحماية
على مسألة التعليم، والتي حاول المستعمر من خلالها أن يفرض توجيهاته وآرائه
السامة، ويزرعها في نفوس وعقول التلاميذ، آملا أن يحصل انفصام وانفصال بين هؤلاء
التلامذة الصغار، وبين فضائهم الذي ينتمون إليه عقديا، ووطنيا، وقوميا، وذلك لكي
يتسنى له تثبيت سياسته كما يشاء. فكان هذا الحد الحاد بمثابة سنان ماضية انغرست في
رقبة مخططات المستعمر من الوريد إلى الوريد. أما الحد الثاني، فكان متجها صوب
تحريك تلك البركة الآسنة، فيما يخص استبدال المناهج التربوية والتلقينية التي دأبت
المؤسسات الدينية الكلاسيكية على إعطائها لتلامذتها، والتي لم تكن لتساير تطلعات
وطموحات التحولات الفكرية، والثقافية، والعلمية، التي أتانا بها العصر الحديث في
مختلف الميادين. فكانت هذه المدارس ثورة على مثل تلك الأساليب التعليمية الراكدة،
والتي كانت تعتمد، أساسا، على الحفظ بشكل آلي، وبجملة من المواد الكلاسيكية، دون
محاولة تطوير منهجياتها. ويمكن أن نقول إن هذه المدارس التقليدية كانت تمارس علم
الرواية في صورته الثابتة، بينما كان طموح تلك المدارس العصرية، خاصة منها المدارس
الحرة، هو البحث عن أساليب جديدة يتمكن التلميذ - عبرها - من تلقن علم الدراية بدل
علم الرواية، وعلم الدراية هذا يفتح آفاق التحديث والتطور والتحول. ومن هاته
الزاوية، فإننا نعتقد أن أديبنا محمد الصباغ، بولوجه المدرسة الإبتدائية للبنين،
يكون قد وضع قدمه البكر فوق الموجة الأولى من الموجات المتوالية واللانهائية لبحر
الحداثة، ويكون - كذلك - قد أقبل عليها غير متهيب منها، ولا ضائع وسط لجتها، لأنه
كان قد تحصن بجدار سميك من الأصالة التراثية المشعة، الأمر الذي سيجعله ينتقي أجود
الصدفات، وأغلى الجواهر اللؤلئية الفاتنة، المسجات في كوامن ذاك البحر الزاخر، دون
الإنهراق في تيارها العام الجارف الحامل معه الغث والسمين، الجيد والقبيح، السيئ
والحسن. وسنرى ذلك منعكسا في كل كتاباته الإبداعية، التي ظلت - دوما - تحضن طرفي
الأصالة والمعاصر، الحداثة والتراثية.
بعد هذه المرحلة الإبتدائية الموحية، والتي عاش
في كنفها صاحبنا على إيقاعات جديدة ومغايرة من حيث التوجيه التربوي والتعليمي،
انتقل إلى مؤسسة تعليمية أخرى، نجدها تستمد مقومات عملها من نفس التوجه الذي سارت
في ركابه مدرسة الجمعية الخيرية، بمعنى أنها تتبنى نفس الاستراتيجية التي تبنتها
مؤسسات التعليم الحر في تلك الفترة من الحماية، ونقصد بالمؤسسة الجديدة مؤسسة
"المعهد الحر" الذي استحدث عام 1935، وقد تأسس في رحاب "جمعية
الطالب" التي بادر بتشكيلها مجموعة من الوطنيين، وعلى رأسهم الأستاذ عبد
الخالق الطريس. ولقد أنشأت هذه الجمعية عدة مؤسسات تعليمية حرة، ساهمت بشكل فعال
وحيوي في إخراج المنطقة من جمودها الفكري والثقافي والسياسي، وإضفاء لون من الوعي الثوري والحس
الأدبي الحديث داخل نفسية التلاميذ. ويمكن القول إن أهم وأبرز مؤسسة تعليمية
أنشأتها هاته الجمعية، هي مؤسسة "المعهد الحر". ويرى إدريس خليفة أن
قانون التأسيس نص على: "أن المعهد سيكون مدرسة للتعليم الابتدائي والثانوي
والعالي، والواقع أن المعهد لم يصل في تطوره إلى مرحلة التعليم العالي، وإنما بقي
مدرسة ابتدائية وثانوية"[6].
ورغم كون هذا المعهد لم يحقق الهدف المنشود
والذي خطط له مؤسسوه، وفي مقدمتهم المرحوم عبد الخالق الطريس، وهو الوصول إلى
تحقيق الكفاية التعليمية داخل الوطن، بدءا من مرحلة التعليم الإبتدائي، وصولا إلى
مرحلة التعليم العالي، فقد استطاع في حدود مستوى التعليم الثانوي، أن يجني ثمارا
زكية فيحاء، وأن يقطف أزهارا ندية ميساء، حيث تخرج من كنفه العديد من الأسماء
اللامعة، والدرر الساطعة في دنيا السياسة، والقانون، والإقتصاد، والأدب. وصاحبنا
محمد الصباغ كان درة من بين تلك الدرر. وفي هذا المنحى يقول عبد العلي الودغيري:
«وفي جنان (المعهد الحر)
نشأ محمد الصباغ، يعصر كروم العلم، ويرشف رحيق المعرفة، وفي رحابه يتذوق طعم اللغة
التي أحبها وتوج بها رؤوس أقلامه. وهناك خفق قبله لأول مرة وهو يرنو إلى راية
البلاد، فيرتفع صوته فوق أصوات الزملاء، وهو يردد النشيد:
يا لواء
خافقا فوق النجود
ولسوف
يكبر الصباغ، ويصبح كاتبا مرموقا في بلاده، ويأتي يوم يقيم فيه المعهد مهرجانا
كبيرا بمناسبة عيده الفضي، فتعود به الذكريات إلى سنوات الطفولة، وإذا به يقف
مخاطبا رفاقه وزملاءه القدامى بلغة ملؤها الوفاء والبرور حين يقول:
(.. من منكم لا يلهج لسانه بالشكر والثناء
والاعتراف بالجميل
لأولئك الجنود المجهولين من مديرين وأساتذة،
أولئك الذين تحالفوا
على تهذيبكم وتثقيفكم، وملء مشاعركم بالخير
والفضيلة والجمال
والنخوة الوطنية القومية ..؟)[7]
كان
المعهد الحر، منارة تطوان، التي تعبد فيها صاحبنا، وتهجد للعلم والأدب.. »[8].
فهذا النص يوضح مدى التأثير القوي الذي تركه
فضاء "المعهد الحر" في نفسية أديبنا بما منحه من إمكانيات مهمة خولت له
ولوج آفاق رحبة ويانعة وجديدة في عالم الأدب والإبداع. فكانت مناحي الدراسة فيه
مناسبة حقيقية لإبراز ملكة صاحبنا، وبلورة موهبته التي كانت تبحث عن مرفأ آمن ترسو
عليه لتمارس تبرعمها السامق. وهـذا التأثير لم يكن -فقط- نتيجة المقررات الجديدة
التي جاء بها المعهد، عبر مناهج عصرية حديثة تستوعب اللحظة، وتنفتح على المستقبل،
بل كان أيضا، وبالأساس، نتيجة جهد كبير، واجتهاد نادر بذله أساتذة ومديرو هذا
المعهد -على تعاقبهم- انطلاقا من رؤية جديدة ومغايرة للمسألة التعليمية، تنبني على
الحركية والحيوية والتحديث، في انسجام تام مع مقومات الأمة الحضارية والتاريخية
والدينية، ومن زاوية خلق نوعية جديدة من العلاقة القائمة بين الأستاذ والتلميذ،
بحثا عن تهيئ مناخ نفسي وفكري تطبعه روح المودة والحميمية، من أجل تحبيب المواد
العلمية والأدبية إلى التلميذ، وترغيبه فيها، دونما ترهيب، حتى يحس بذاته، ويفصح
عن طاقاته الخلاقة، ويجلي ملكاته الكامنة.
ومن جملة الأسماء التي تعاقبت على التسيير
والتدريس بالمعهد الحر نذكر: عبد الخالق الطريس، امحمد عزيمان[9]،
محمد الخطيب، التهامي الوزاني، الطيب بنونة، أحمد بنجلون، محمد الفاسي، محمد
المسفيوي، وهي أسماء لها وزنها الوطني والفكري والأدبي، وقد تركت جميعها بصمات
مبرزة في الحياة الأدبية والنضالية لتطوان خلال المرحلة الثانية من عهد الحماية
التي تميزت - كما قلنا - بثورة عارمة في مختلف الميادين.
لقد اندمج محمد الصباغ في هذه الحياة الجديدة
التي لامس عبيرها الملتهب في رحاب "المعهد الحر"، ليس -فقط- في حدود
تلقي الدروس ذات المناحي الجديدة، والإحتكاك بأساتذة ذوي قدرات وكفاءات عالية، بل
أيضا، في المشاركة الفعالة في تأثيث فضاء هذه التحولات الحداثية الفياضة، حيث
ساهم، إلى جانب رفاقه من التلاميذ، في إصدار مجموعة من المجلات الحائطية ذات
الجودة الفنية الرفيعة، والمحتوى الأدبي المتميز في ذلك العصر[10]. ولقد
تركت هذه المجلات الحائطية المدرسية أثرها الكبير والواضح في نفسية أديبنا، وكذلك
في أفقه الأدبي والثقافي، فنلمس هذه الآثار بينة - لاحقا- من خلال مساهماته
الفعالة والمتفردة في مجال العمل الصحفي، وهذا يجعلنا متأكدين من كون بذرة الحس
الصحفي المغلف بمسحة أدبية سامقة كان موسم غرسها وسقيها في تلك الفترة من الدراسة
الإبتدائية والثانوية عبر معانقة صفحات المجلات الحائطية بشغف ووداد قل نظيرهما،
ومن ثم، كانت الثمار غضة، طرية، ومرهفة الحواشي.
أمر آخر، كان له دور مهم -أيضا- في تكوين أدبية
صاحبنا، وبلورة حسه الثقافي، وتشكيل رؤيته الفكرية وهو ما يزال في هاته المرحلة من
التعليم داخل رحاب المعهد الحر، وهو ما يتعلق بالمحاضرات والندوات التي كانت تلقى
بين الفينة والأخرى بصورة منتظمة، ويستدعى للمشاركة فيها أساتذة وأدباء ومفكرون
محليون، ووطنيون من خارج تطوان، وحتى بعض الأعلام الزائرة من خارج الوطن، سواء من
المشرق، أو من إسبانيا. وكانت هاته المحاضرات والندوات عادة ما تشرف على تنظيمها
وتسييرها "جمعية الطالب" التي كان يرأسها الأستاذ المرحوم عبد الخالق
الطريس، وكانت المواضيع المنظور في جنباتها موزعة بين الأدب، والفكر، والإقتصاد،
والإجتماع، والسياسة، والعلوم، والقضايا الدينية … وغيرها من المواضيع التي كانت
تشغل بال المجتمع المغربي في لحظته تلك، وفي ظرفيته تلك، وإن ظلت المواضيع الأدبية
والفكرية هي المهيمنة عموما، ولكنها مشحونة باستراتيجية وطنية، تطمح إلى بث الوعي
الفكري والسياسي الوطني، وكذلك خلق حس ثوري رفيع بين صفوف التلاميذ الذين سيكونون
منارات أفق الوطن. وإذن، فهؤلاء التلاميذ كانوا يشكلون النواة الصلبة، التي التفت
حولها جمعية الطالب لتمرر خطابها، ولتتألق في تنظيم تلك الندوات والمحاضرات، وكذلك
الجلسات الأدبية. فكانت مشاركة التلاميذ لها فاعليتها وحيويتها في كل هذا، مكنت
غالبيتهم من اكتساب خبرات ثرة، وتخزين معارف خصبة، وتجديد رؤاهم، وتطلعاتهم من
خلال المعلومات الجديدة التي يتم شحنها عبر مواكبة تلك الأنشطة الثقافية المتعددة.
وهكذا تنمو شخصية كل فرد منهم، وتتجه صوب اكتمالها، ونضجها، متجاوزة حدود ذاتها،
لحظة فلحظة، أو فلنقل، مضيفة إلى ذاتها عناصر جديدة وحديثة، تمنحها رؤية مغايرة،
وإحساسا بكرا جديدا.
ومن جملة الشخصيات التي نمت ونضجت، وتبلورت في
بهو هذا الفضاء الثقافي المتنوع، كانت شخصية أديبنا، التي أصبحت تنجلي ملامحها
الفنية والإبداعية خطوة تلو خطوة، وكأنها نهر عميق خالد يحضن شآبيب الندى والودق
قطرة تلو قطرة، حتى لحظات الفيوضى المشرئب. ولم تكن الندوات ومواضيعها هي وحدها
تمارس هذا التأثير في شخصية أديبنا الفتى، بل من خلال ذلك الإحتكاك والإتصال
المباشر وغير المباشر بالأساتذة والأدبـاء الذين كانوا يشاركـون
في تلك اللقـاءات، كـان يحدث -أيضا- هذا التأثير، وهو تأثير ربما
أقوى وأبقى من تأثير الموضوعات في ذاتها، لأن الأساتذة يعتبرون نماذج مثالية يحاول
التلميذ أن يحذو حذوها، ويتأثر أثرها، ويحلم أن يكون شبيهها، أو يضاهيها فيما وصلت
إليه. وإذا كان الأمر على هاته الحالة مع الأساتذة، فكيف سيكون الأمر مع أساتذة هم
في الآن نفسه أدباء كبار، ولهم حضورهم الوطني المتميز، سواء في النضال، أو في
الفكر والأدب؟ ونفس الإعجاب سنجده تجاه الأدباء المشارقة أو الإسبان. إن مثل هذا
الإقتراب لفتى صغير من قامة شخصيات أدبية وفكرية يُوَلِّد في نفسيته أشكالا جمة من
المحفزات المعنوية التي تدفعه دفعا إلى الاجتهاد، وبذل قصارى ما في مراده من أجل
الوصول إلى منصة هذا المقام الذي يرى فيه أولئك الأدباء[11]، وهم يتربعون
على عرش الإبداعية.
كانت
مرحلة الدراسة بالمعهد الحر نقلة نوعية في حياة أديبنا، حيث فتحت أمامه شرفات
مضيئة وبهيجة، أطل من خلالها على مفاتن لغتنا العربية الصافية، وهي تتمختر في سياق
تلوينات مجازية واستعارية مدلهمة التركيب التصويري الأنيق والباذخ، عبر نصوص شعرية
لها منزلة الإشراق والإنبهار، وعبر نصوص نثرية لها موقع الإشعاع والفرادة. وكل هذا
كان يأتي في غلالة منهجية سلسة وعذبة، تستلذها الأذن، ويعشقها الإحساس، وتطرب لها
النفس طربا عظيما يشغلها عن باقي الموجودات. ومحمد الصباغ يعي جيدا مفعول هذا
الأثر الذي نقشته في نفسيته، وبالتالي في شخصيته نقشا سرمديا تلك المرحلة المشعة
من الدراسة بالمعهد الحر. فيقول في مناسبة مخاطبا رفاقه القدامى الذين شاركوه
التلمذة هنالك: (من منكم لا يلهج لسانه
بالشكر والثناء والإعتراف بالجميل، لأولئك الجنود المجهولين من مديرين وأساتذة،
أولئك الذين تحالفوا على تهذيبكم وتثقيفكم، وملء مشاعركم بالخير والفضيلة والجمال،
والنخوة الوطنية القومية )[12].
تحدثنا
في الفصل الأول بإسهاب عن البعثات الطلابية التي أرسلت من تطوان إلى ديار المشرق،
لمتابعة الدراسة العليا في جامعات "نابلس" و"القاهرة" بصفة خاصة،
ويعتقد الكثير أن تلك العلاقة الأدبية الوطيدة التي ربطت أديبنا محمد الصباغ بعدد
مهم من أبرز الأسماء الأدبية المشرقية تعود بالدرجة الأولى إلى الفترة التي قضاها
هنالك ضمن بعثة من البعثات الطلابية، إلا أن هذا الإعتقاد غير صحيح بالمرة، رغم أن
محمد الصباغ هو المثقف التطواني الأكثر ارتباطا بالمشرق، فهو يتفوق في هذا الباب
على جميع أولئك الذين درسوا هنالك، بل يمكن اعتباره رائد الروابط الثقافية
المغربية المشرقية، والواقع أنه لم يزر قط تلك الديار ضمن بعثة طلابية، ولكن حظه
في التعليم العالي كان ميمما جهة الغرب، وبالذات نحو جامعات إسبانيا، وإلى هذا
يشير الأستاذ عبد العلي الودغيري، قائلا:
«وعلى كل حال، فإن الصباغ
إذا لم يكن من ضمن هؤلاء الذين زاروا المشرق دارسين ومتعلمين، على عكس ما توحي به
تلك الصلاة الوطيدة التي استطاع عقدها مع كبار الأدباء والكتاب العرب، فإنه كان من
أولئك الذين نفذوا إلى العالم الخارجي من أقرب السبل، إذ لم تكن كل البعثات
المتوجهة إلى الخارج تقصد المشرق كما ألمحنا سابقا، بل هناك من الشباب من قصد
إسبانيا وعاد منها بشهادة من الشهادات، أومعرفة تامة باللغة الإسبانية. فمن هؤلاء
نذكر على سبيل المثال، كلا من عبد اللطيف الخطيب، وعبد السلام المؤذن، والعربي
المساري، والصباغ نفسه الذي عاد منها وهو يحمل شهادة في فن المكتبات.. ولقد أصبح
دور هؤلاء فيما بعد - فضلا عن مشاركة إخوانهم العائدين من الشرق في الكتابات
الصحفية، وتنوير الأذهان - معروفا في ميدان الترجمة والتعريف بالأدبين العربي
والإسباني»[13].
إن التحاق الصباغ - إذن - بإسبانيا لمتابعة
دراسته العليا كان بمثابة فتح جديد في مسيره الأدبي والثقافي، حيث عمق ارتباطه
باللغة الإسبانية، ومن ثم بالأدب الإسباني، وتعرف عن قرب على شعرائها الكبار،
ومثقفيها المرموقين، ولمس تلك التحولات الجديدة التي طرأت على الكتابة الإبداعية،
وهي تحولات كانت متأثرة بالتيارات الأدبية الأوربية الحديثة، فتمثل العديد من
التلوينات الجمالية الفنية المستحدثة. وهكذا كانت إقامته هذه منارة جديدة استضاء
بها باحثا عن أفق إبداعي جديد، يمنحه التميز والفرادة، ويمنح لكتابته رونقا
وإشراقا، وكأنها فوارة ضوء أزلية. ونحن، في تحليلنا لنصوصه، سنلمس هذا التأثر
القوي والثر، الذي تركته فيه هاته الرحلة الدراسية، وما تضمنته من تأملات، واكتساب
لمعارف جديدة، واطلاع على آثار أدبية مغايرة، وإقامة علاقات متميزة. فكانت استفادته
جمة ومتنوعة في هذه السياقات، انعكست كلها إيجابا على ما سيعطيه - لاحقا - من
كتابات أدبية أصبح لها موقعها المتميز في ساحة الأدب المغربي الحديث والمعاصر.
2 - علاقته بالصحافة
تحدثنا في الفصل السابق، عن العمل الصحفي الذي
ظهر وانتشر في تطوان إبان عهد الحماية، وكيف أنه تميز في جوانب عديدة، وكانت له
منافذ التأثر التي غمرت فضاء تطوان، ومنحته حركية لم تنضب أبدا طيلة الفترة المشار
إليها. من جهة ثانية، فإننا أشرنا آنفا، إلى كون محمد الصباغ كانت له مسؤولية
الإشراف على بعض المجلات، وهو ما يزال غضا طريا في المدرسة الإبتدائية، ثم لاحقا
في المدرسة الثانوية. وهذا يدل دلالة قاطعة على أن أديبنا بدأ تجربته الصحفية
مبكرا جدا، فاكتسب خبرة جيدة، وامتلك دربة كبيرة في كيفية استشراف العمل الصحفي،
وممارسة العملية الإبداعية، التي ترتاح نفسه إليها، ويستطيب إحساسه بها من داخل
هذا العمل الصحفي، وبحكم أن تطوان - كما رأينا - أصبحت في تلك الآونة مليئة بالصحف
والمجلات، منها ما هي ذات طابع عام، ومنها ما هي ذات منحى متخصص في حقل من الحقول؛
فقد وجد الصباغ أمامه عدة منابر متنوعة، شجعته على الكتابة والنشر، ومن بين
الجرائد : "الريف"، و"الأمة"، و"بريد الصباح". وفي
المجلات، نجد: "السلام"، "المعتمد"، "الأنيس"،
وغيرها... ولقد تنوعت مقالاته فيها، حيث كانت تجمع بين المناحي الاجتماعية،
والأدبية، والفكرية، والتأملية، والعاطفية، والوطنية، وغيرها... ومن خلال احتكاكه
بهذه الصحف والمجلات، وبمسيّريها وكتَّابها، كان يعمق رؤاه وتصوراته، ويستنهض
طموحاته.
وفي نفس الآن، نجده قد انفتح - بمبادرة منه -
على الصحف والمجلات المشرقية، التي كانت تصل بانتظام إلى تطوان، فنشر العديد من
المقالات هنالك، ومن خلال هاته الصحف والمجلات ربط أواصر علاقات قوية ومتينة مع
العديد من كتاب وأدباء المشرق. في البدء كان يتم ذلك عبر هاته المجلات والصحف،
نذكر منها: "الأديب"، "الورود"، "العرفان"، وغيرها…
ثم حين توطدت العلاقات وأصبحت حميمية وشخصية، أحيانا كثيرة، أصبح التواصل عبر
المراسلات الشخصية، وهي مراسلات في مجملها كانت تسمو نحو المواضيع الأدبية،
والآراء الثقافية البليغة. ومن جملة هذه الأسماء، نذكر؛ بولس سلامة، سعيد عقل، ثم
غادة السمان.
ثم - أيضا - وانطلاقا من المنابر الصحفية التي
تصل إلى تطوان من المهجر، كانت له صلات طيبة مع أبرز أدباء المهجر، منهم على
الخصوص؛ ميخائيل نعيمه، ألبير أديب، رياض معلوف. ويظهر جليا أن تأثير الأدب
المهجري في الكثير من كتاباته كان قويا جدا.
وكذلك، فإن انفتاحه على الأفق الإسباني كان عبر
النشر في صحف ومجلات كانت تصدر بإسبانيا، ومن ثم تعرف عليه القراء الأسبان وأعجبوا
بأسلوبه وشاعريته أيما إعجاب. وعبر تلك الصحف والمجلات ربط علاقات أدبية وشعرية
استثنائية مع رموز الأدب والشعر الإسبانيين، مثل: خوان رامون خمينيث، وفسينتي
الكسندري، ورافاييل ألبيرتي، وغيرهم، قبل أن يلتقي بهم شخصيا، سواء بإسبانيا، أو
بتطوان. وسنلمس ملامح هذا التأثير بادية في جملة من الكتابات التي تفصح عن تمثلات حداثية
لها تميزها وثراؤها.
3 - المراسلات الأدبية
يبدو أن، محمد الصباغ فتح حوارا شاملا وعميقا
شرقا وغربا، ظل يراوح بين الراوبط الحميمية التي نسجها عبر الصحف والمجلات مع
الأدباء المهجريين الذين ذكرناهم، وتلك العلاقات الأدبية الهامة التي تولدت مع
شعراء كبار من إسبانيا، وهي علاقات وروابط لم تكن محفزاتها قابعة في خندق التجاوب
الإنساني والشخصي فحسب، بل كان هنالك حوار أدبي مفتوح، وعميق ظل يؤسس في هدوء
وتأمل عميقين لتصورات تروم في شكلها ومضمونها تحديث الأدب، وتجديد صورته التي غدت
نمطية أكثر من اللازم، واقتراح أشكال مغايرة لها جدتها وسموها. والواقع أن
المراسلات التي تمت بين محمد الصباغ وبين الشعراء والأدباء في المشرق، وخاصة منهم
المهجريين، وأيضا في إسبانيا تستحق دراسة مبحثية مستقلة (نرجو أن نقوم بها
استقبالا) خاصة فيما يمكن أن نستمد منه ملامح تأسيس نظرية للحداثة الشعرية
والإبداع الشعري التي كانت في طور بنائها في ذلك الوقت المبكر، وهو الأمر المسكوت
عنه حاليا، في تنظيراتنا العربية، وخاصة من طرف إخواننا المشارقة الذين ما زالوا
متشبثين بمركزية التأسيس عندهم، رغم كل المؤشرات التي تبين بوضوح أن المغاربة
كانوا أيضا مساهمين بقوة في هذا التأسيس[14]. ولعل
هاته المراسلات تؤكد أن مشارقة ذلك الزمان، وهم من الرموز الأدبية الكبيرة، كانوا
يعترفون بهذه المساهمة في الريادة والتأسيس التي قام بها المغاربة، وهي مراسلات
كانت تنم عن تأثير وتأثر، وعن إقناع فكري وأدبي يتخلل فضاءات الحوار الدائر بين
الطرفين.
نفتح رسالة كتبها ميخائيل نعيمه لمحمد الصباغ،
فنقرأ:
«سلام عليك وبعد، فقد
تصفحت النسخة التي تفضلت بإهدائها إلي من كتاب "العبير الملتهب" فسرني
أن أطالع فيها بوادر النهضة الأدبية والثورة الفكرية في المغرب الأقصى، فكأنما
ترجيع بعيد لانتفاضة "الرابطة القلمية" ضد كل ما رث وبلى من تقاليدنا
الأدبية وموازيننا الروحية. ومن الجلي أنك من الذين انشغلوا بالأساليب المهجرية،
فلا عجب أن يلمس القارئ في سطورك حماسة المؤمن بما يقول ويعتقد، وأن تضطرم حماستك
هنا وهناك، فتغدو لهيبا. ذلك لأنك مخلص في محبتك، صادق في إعجابك، عنيف في كرهك،
صلب في عقيدتك وهذا مرده لفرط محبتك»[15].
ويعلق الأستاذ عبد المالك عليوي على نص هذه
الرسالة قائلا:
»ينم هذا الخطاب
بتفاصيله، عن التجاوب الذي حصل بين محمد الصباغ والمشارقة (لبنان) في زمن مغربي،
منعت بنيته الثقافية العامة الحوار مع الآخر في تعدده، واكتفى مستنسخا مؤولا
التجربة الشعرية التقليدية بمصر. كان رهان محمد الصباغ التحديثي أوسع من رقعة
العالم العربي، ليمتد إلى أوربا، إسبانيا وأمريكا الشمالية والجنوبية، ونمى حواره
المتواصل مع أعضاء الرابطة القلمية بنيويورك (تأسست سنة 1920 وامتدت هذه الرابطة
إلى سنة 1933)[16]،
واختير محمد الصباغ لقراءة أعمال شفيق معلوف، وبولس سلامة، وميخائيل نعيمه، وإيليا
أبو ماضي«[17].
فهذه الرسالة من ميخائيل نعيمه، تشكل نموذجا لنوعية الحوار الذي كان يؤسس لتصورات
أدبية وإبداعية، تنبع من تمثل جيد لمفهوم التحديث والجديد. والذي يثير الإنتباه
كثيرا هو أن أديبنا محمد الصباغ لم يكن ليقف أمام آراء ميخائيل نعيمه، أو غيره من
الأدباء الكبار الذين تراسل معهم، موقف المتمثل، ولكنه كان أيضا يجادل، ويناقش،
ويقاطع، ويطرح الآراء البديلة التي تنم عن حسن اطلاع، وبعد نظر، وعمق معرفي،
ومضمون هذا نجده من خلال جوابه عن سؤال طرح عليه حول ماهية الأشخاص الذين ساهموا
في تأسيس الفعل الشعري الحديث، فقال:
»كان الشعر يبحث عن نفسه
وعشق السفر نحو رحم الكون في شساعته، مع لبنان وإسبانيا أقمت مرابط رحلتي الشعرية.
ومع ميخائيل نعيمه وبولس سلامة وغيرهم كان الحديث والسجال الشعري، حيث انتصرت فيه
الكلمة الحرة والبحث عن اللاحقيقة، التي هي حقيقة، وعن الشعر في قوة الخيال
والوجود القابع في الوجود المثال، والورد المثال، والجفن المثال. مع لا حدود الشعر
عقدت الرحلة. والشعر ليس شكلا، وقد أكدت هذا في عدة مناسبات، واختلفت مع ميخائيل
نعيمه في الموضوع، قائلا له:
الحياة عبارة عن رموز وأشياء خفية، لا ندركها
نحن، وكل عمل شعري بحث عن زهرة وجفن ومطر مثاليين. فيما رموز الأشياء واقعية،
حقيقية، لا ندركها نحن ببصيرة الطين، لأن الأشياء غريبة روحية، وإذا أدركت ضاع
الشعر. فمهمة الشعر هي الوصول إلى اللاحقيقة، والتي هي حقيقة، فهو أوسع من صناعة
وقاموس، كما اللغة شساعة«[18].
فهذا
الجواب الذي يحتوي على أفكار جليلة وعميقة، يفصح عن أصداء ذلك السجال الأدبي
الواسع والبعيد، الذي كان دائرا عبر المراسلات، والذي ترك بصمات واضحة في بناء
تصور متكامل ومنسجم للعمل الإبداعي، ولوظيفة الإبداع أيضا. ونلاحظ أن تأثير
المراسلات كان يسير متوازيا ومضاهيا لمسير التواصل الصحفي، وكلا المحورين يعدان من
أهم وأبرز المؤثرات التي أصبغت على شخصية الصباغ سمة الأديب الشمولي المنفتح، أو -
بلغة الآن وهنا - سمة الأديب الكوني، الذي تجاوز حدود دائرته الصغيرة، واخترق حدود
بلاده، باحثا بنَفَس لا يكد ولا يأسى عن آفاق جديدة بكر، لم يطأها يراع من قبل.
والنص الذي أتينا به أعلاه يجسد ملامح هاته الجدة، والطراوة التي كان يبحث عنها
الصباغ في اتجاهات متنوعة، وملامح تطمح إلى تشكيل صورة بهية لبرعم "المثال".
فهذا هو جوهر الإبداع وروحه عند أديبنا، وهو الذي افتقده في المغرب، فظل يحس بغربة
كبيرة وقاسية حتى فاضت به كأس الحسرة والإجحاف، فسال صوته قائلا:
»لم أكن مفهوما في
المغرب، ولم يكن في المغرب صراع شعري حقيقي (صراع قديم جديد)، بل كنت أتعرض
لمضايقات كلامية في أماكن معينة، ولكنني اخترت طريقي دون رجعة « [19].
وهذا يبرز مدى عمق الإحساس بالغربة، الذي كان
يعيشه محمد الصباغ داخل فضائه المحلي والوطني، ولذلك فضل التحليق خارج السرب،
والبحث عن شرفات عالمية وكونية. صحيح أنه تلقى الدعم والتشجيع الكافيين من طرف
أدباء مغاربة كبار، وعلى رأسهم الأستاذين الجليلين، المغفور لهما؛ علال الفاسي،
وعبد الله كنون، وهما معا شاعرين أنيقين قبل أن يكونا رجلا فكر وعلم ونضال وسياسة،
إلا أن هذا التشجيع، وذلك الدعم، كانا يصدران عن أشخاص وأفراد، ولم يكونا يعكسان
تيارا أدبيا قائما، أو اتجاها له قيمه وتصوراته التي تشاكل وتغاير قيم وتصورات
الاتجاه التقليدي المهيمن، مثلما رأينا مع "الرابطة القلمية"،
و"العصبة الأندلسية"، وغيرهما من التيارات التي شكلت تفعيلا منظما
ومنسجما داخل حركة التجديد والتحديث. ولذلك لا نعثر على مؤثرات أدبية مغربية واضحة
المعالم والملامح في أدب الصباغ، بل كل ما هنالك من تأثير ظل مرتبطا بالنشأة
والتعليم والصحافة، ليس إلا. ومن هذا المنطلق - أيضا - كان إقباله على فتح حوار مع
لبنان وإسبانيا أكثر من إقباله على فتح مثل هذا الحوار داخل المغرب. والذي يثير
انتباهنا، ويتركنا نطرح أكثر من سؤال على صانعي تلك اللحظة التاريخية، هو أن هذا
الحوار ابتدأ أول ما ابتدأ عبر الصحف والمجلات المشرقية والإسبانية، التي كانت تصل
إلى تطوان بصورة منتظمة، وتوزع هنالك توزيعا واسعا يسمح بأن تطلع عليها فئات عديدة
ومتنوعة من القراء والمهتمين، وكذلك المتخصصين والفاعلين في الحقل الأدبي، بمعنى
أن الحوار كان موطنه ومركزه هو تطوان، لكن كل هـذا لم يسمح بأن تهـب رياح التجديد
بالقوة المطلوبة، وبالسرعة المرجوة، ولم يساعد - كذلك - على خلق وقيام اتجاه أو
تيار يلم شتات هاته الروح التجديدية المنفلتة أنفاسها هنا وهناك. بل ظل التجديد
يزحف ببطء شديد، وكأنه منتصب على قوائم السلحفاة..! فقد ظلت صورته، في الغالب
الأعم، محتشمة، وخجولة، وباهتة الحواشي، ولم ترقى إلى تكثيف خطاب حداثي قوي، قادر
على الدفع بصوت التجديد الذي نادى به محمد الصباغ إلى مداه الأقصى. وظلت تظهر على
السطح - فقط - بين الفينة والأخرى أصوات مفردة، ومعزولة، تنادي بدعم روح التجديد
والتحديث، ولكن سرعان ما يكتنفها الضباب، ويبتلعها سرداب التقليدية المخيف، والذي
كان مهيمنا وباسطا سلطته المعنوية والدلالية[20].
والمفارقة الثانية الذي نلاحظها في هذا المنحى،
هو أن المجلات الأدبية التي كانت تصدر بتطوان فتحت منافذها وصدرها لمبدعين من
مختلف الجهات، الذين كانت تطبع تجربتهم روح التجديد، ومن ثم، فإنها لعبت دورا
كبيرا - كما يقول محمد الصباغ نفسه - في تقديم عدد كبير من شعراء المغرب، والمشرق،
وإسبانيا أيضا، من خلال نشر قصائدهم، ومع ذلك، فإن هذا المجهود الجبار والإستثنائي
الذي قامت به هذه الصحف والمجلات، لم يتمكن - بصورة تامة ونهائية - من فك الطوق
المتين للنظرة الكلاسيكية الثابتة، والذي كان يطوق رؤية المتلقي عموما، ويحجب عنه
منافذ أشعة التغيير التي كانت قد بدأت فيوضها تتسرب وتتسلل إلى داخل جسد الأدب
المغربي في مختلف مكوناته وأجناسه.
والواقع أن محمد الصباغ لم يتوقّف عند هذا
العبور الأدبي الذي وصله بالمشرق وبالمهجر، كما بإسبانيا، بل نراه ييمم وجهه جهة
أقصى المغرب العربي، مستروحا تلك الهبات الروحانية الندية واليانعة، التي ضوعنا
بها فيروز الشعراء المحدثين؛ أبو القاسم الشابي، وهكذا يربط صلات وعلاقات مع أدباء
من تونس، وتتم في هذا المجرى مراسلات عديدة ومتنوعة، كان يبحث في ينابيعها عن
أصداء الشابي، وانعطافاته في المحيط الأدبي التونسي، وتلك التلوينات الزاخرة التي
أضفاها بيراعه الأنيق والآسر على فضاء تونس الأدبي والشعري. فكانت له مراسلات
أدبية رفيعة المستوى مع كل من محمد الشاذلي خزنه دار، والسنوسي، والحليوي، وأبي
القاسم محمد كرو، وكتب هؤلاء مقالات شيقة حول كتبه وأدبه بصفة عامة، سنستأنس ببعض
منها في حينها. ولنقرأ الآن مقطعا شعريا معبرا وجميلا، كتبه محمد الشاذلي خزنه دار
يخاطب فيه الصباغ بلغة شاعرية غاية في الإبداع. حيث قال:
هـــذا لعــمــرك في الــود إبــلاغ
مــالــي وأيــم اللــــه عــنه
رواغ
إنــي اصطــبغت بــما يسرك منظرا وعليــك ســبره أيــها "الصــبــــاغ"
صــدق وإخــلاص وحــسن طويـة مــا
دونــهـن ولا جــدال فــراغ[21]
والملاحظ أنها كانت مخاطبات ومراسلات تقترب من
الأدبية، والشعرية، ومناقشة القضايا الأدبية أكثر من اقترابها من الأمور والقضايا
الشخصية، بل كان هنالك إحساس بأن قضايا الأدب هي قضايا شخصية وذاتية، قبل أن تكون
قضايا عامة وموضوعية.
وقال خزنه دار في مقطع شعري آخر:
هـذا "الأنيس"[22] وهـذه
أفنان
دوحات الفنون
عاشت من أدب ومن
علم ومن شتى الشؤون
إنسانها "صباغنا"
عن حد
قولك كن يكون[23]
4 - الإتجاهات الأدبية
تحدثنا فيما سبق عن نوعية العلاقات التي ربطها
محمد الصباغ مع مجموعة من الأدباء والشعراء من مختلف البلدان، ولا شك أن هؤلاء
كانوا ينتمون، فرادى أو جماعات، إلى اتجاه معين من الاتجاهات الأدبية المعروفة،
وحتى لا نقول المذاهب، لأن المذهب يقتضي استحضار جملة من المكونات والشروط لا
نراها مجتمعة في الإتجاه، ولذلك سنوثر مصطلح "اتجاه"، لأنه يشكل ملمحا
من ملاحم المذهب المراد الحديث عنه.
وإذن، كانت علاقة الصباغ مع أولئك الشعراء
تستوعب - أيضا - فضاءات ذلك الاتجاه الذي ينسج قصائده وكتاباته على منوال هذا
المبدع أو ذاك. ومن ثم، كان تأثر الصباغ بهذا الملمح أو ذاك لا ريب؛ فنجده متأثرا
بالمنحى الرومانسي الذي يمتح عناصره من الذات المنسابة بين ضفتي الغربة والتأمل،
وهو المنحى الذي طغى على معظم كتابات المهجريين، وعلى رأسهم جبران خليل جبران،
وميخائيل نعيمه، ولقد أشرنا سالفا إلى هذا، حينما استشهدنا بقولة لميخائيل نعيمه
يلمح فيها إلى كون الصباغ تأثر خطى كتابات "الرابطة القلمية"، واغترف من
حياض الاتجاه الأدبي الذي طبع هذه الرابطة، والذي ما هو إلا صدى للمذهب الرومانسي
الذي ظهر في الغرب. وفي هذا المعنى يقول عبد الكريم الخطيب:
«إن محمد الصباغ ينهج
طريقة الرومانسية الغربية خلال القرن التاسع عشر، سواء في طرائقه الأساسية أو في
أبسط تعابيره، على أن حالة هذا الأديب تعتبر ظاهرة في الأدب المغربي... »[24].
فكان
المنحى الرومانسي مكونا حاضرا من مكونات الخطاب الأدبي عند محمد الصباغ، فرغم أن
غلالته الظاهرة تربطه بأدباء المهجر، فإنه - أيضا - تأثر فيه بكتابات أدباء الغرب،
من خلال قراءاته لهذا الأدب عبر اللغة الإسبانية، غير أن بداياته الأولى تبرز
تأثره بجبران خليل جبران، وأيضا بالشابي في بعض تلويناته الشاعرية، وبميخائيل
نعيمه كذلك. نقرأ هذا المقطع لمحمد الصباغ الذي يقول فيه:
»لقد اعترفت إليك بذنوبي
كلها في صلواتي الخاشعة،
طالبا منك أن تضمد جراحي. إلهي! أكثر من هذا لا
أحتمل. أغثني فأنت الملاذ الوحيد.
أوراق
الخريف عندما يعتريها الذبول تسقط وألم المخاض عندما
يشتد
يجنح بالجنين.
وهبوب
العاصفة الشديدة يلين
بفرقعة
الزوابع والصواعق في شاسعات الآفاق.
أما
عذابي بأوهامي، فأوراق ذابلة مسمرة في جوانحي،
تطير بي
- كلما هب عليها نسيم - إلى كهوف الأشباح،
حيث
الأصداء المتلونة. »[25]
ثم نفتح باب سفر روحي ميممين جهة معبد جبران
خليل جبران، فنسمعه يقول:
«كنت بالأمس وحيدا في هذا
العالم يا حبيبتي، وكانت
الوحدة قاسية كالموت.
وكنت
منفردا كالزهرة النابتة في ظل الصخور المتعالية، فلا تشعر الحياة بوجودي،
ولا أنا
أشعر بكيان الحياة. واليوم قد استيقظت نفسي ورأيتك منتصبة بقربها، فتهيبت وتهللت،
ثم سجدت أمامك، مثلما فعل ذلك الراعي عندما رأى العلّيقة مشتعلة»[26].
من خلال قراءة أولى نلمس تلك الأصداء المتقاربة
والمتماثلة في تعبير الكاتبين، والتي تستقطر منابع الخطاب الرومانسي في أسمى
تجلياته، فهناك؛ الصلاة - الجراح - السجود - الزهرة - العاصفة... كما أن التركيبات
في سياقها تنتمي إلى الحقل الدلالي الرومانسي، مثل: فرقعة الزوابع والصواعق في
شاسعات الآفاق، ثم الزهرة النابتة في ظل الصخور المتعالية.. فالنفس الشاعري الذي
يحضن البناء النصي في كلياته هو نَفَسٌ يحتمي بدفق رومانسي شفيف يغلفه، ويسري في
ثنايا سياقاته.
لكن هذا
لا يعني أن الكتابة عند كليهما تظل متماثلة في جميع خطوطها، بل إنها تحمل في
تماثلها هذا تقاطعا وتشاكلا واضحا ومتجليا، يمنح لكل منهما تميزه وتفرده، وبصمته
الشعرية الخاصة. ولن نتطرق إلى جميع التقاطعات، لأننا سنعالج هذا الأمر، في سياق
الدراسة النصية لكتابات محمد الصباغ لاحقا. لكن على مستوى النصين الماثلين أمامنا أعلاه،
يظل أهم تقاطع يمنح التميز والفرادة لكليهما، هو تضمين الكاتبين لمرجعيتين دينيتين
متشاكلتين؛ فالأول، ونعني به محمد الصباغ، يصدر عن نفس ديني إسلامي، وهذا واضح في
طريقة الدعاء والتضرع إلى الله، ثم الصلاة وغيرها من التركيبات التي تومئ إلى حضور
هذا النفس الروحي المتسامي.
أما الثاني، ونقصد جبران خليل جبران، فإن
مرجعيته الدينية مسيحية، وهذا الأمر يتجلى بوضوح في مجموعة من التعابير الدالة، من
بينها سجوده أمام حبيبته، حيث يقول: "ثم سجدت أمامك"، ثم التعبير الذي
يلي هذا: "مثلما فعل ذلك الراعي حينما رأى العليقة مشتعلة". ونعلم أن
مفردة [الراعي] تعتبر من بين المفردات
المسيحية المقدسة، وكذلك العليقة، التي ترمز إلى التاج الشائك الذي نصب فوق رأس
المسيح قبل صلبه، وذلك حسب الاعتقاد المسيحي المزعوم.
وإذن، فهنالك مصدرين متقاطعين ومختلفين يحضنهما
المنحى الرومانسي الذي اختاره الكاتبان منارة تنير لهما درب مغازلة الكلمات في
توددها وعناقها المفعم بالدفء والعذوبة والحنين.
وإذا كان المنحى الرومانسي قد ترك بصمات مختلفة
في شخصية محمد الصباغ، وأيضا في أدبه بصفة عامة، فإن ملامح الاتجاه الرمزي هي التي
شكلت مركزية التمثيلات الأدبية والمذهبية في تبلور الشخصية الأدبية والإبداعية
لأديبنا. فمعظم كتاباته تنحو هذا المنحى، وحتى تلك التي نجدها تروم التأثير
بالمنحى الرومانسي، فإنها تهيمن عليها تشكيلات رمزية لها تألقها وتميزها. ولقد
انتبه متتبعواْ كتابات الصباغ مبكرا إلى هذا المزج المشرق الذي يوظفه الشاعر
لملامح اتجاهات أدبية متنوعة داخل فضائه الإبداعي، والذي منح هذا التميز والفرادة
لأعماله الإبداعية ضمن الإنتاج الأدبي المغربي بصفة عامة. ومن أبرز هؤلاء، نذكر
الأستاذ علال الفاسي، الذي يقول في هذا السياق:
«في المغرب نهضة أدبية
تنزع نحو شتى المدارس[27]،
أو تحاول أن تكون هي مدرسة مغربية خالصة، ومع أن هذه النهضة، ما تزال في طورها
الأول، لم تتحول إلى اتجاهات ثابتة، فهي جدية ومسايرة على وتيرة واحدة نحو التبلور
المنشود.
والأستاذ
محمد الصباغ، من الأدباء المرموقين الذين تأثروا بالمدرسة الرمزية، التي أضفى
عليها حللا بديعة من أرق ما نسجه الخيال العربي الحديث، وقد سار في جميع كتبه على
هذا النهج، فأنتج باقات شيقة من الزهور التي يستنبتها في عالمه الخاص، ويقبض من
أريجها العبق، ما يقربه إلينا في هذه الأوطان الصغيرة التي امتاز بها سحر الشرق
وفنه.
وقد لا
يفهم الكثيرون أسلوب الصباغ أو رقائقه،
ولكنه مع ذلك: مبدع في طريقته، وملهم في خياله، ومبتكر في أسلوبه، ومفتن في
صوره»[28].
والظاهر أن محمد الصباغ تفنن في استدعاء
التلوينات الرمزية الموغلة في الإبداعية، وأضفى عليها من شذى روحه ما جعلها ترتفع
إلى مستوى من الجمالية التي منحته ريادة الرمزية في الأدب المغربي.
ونحن نبحث في الشهادات، أوالإستشهادات التي تدعم
الموقف الذي اخترناه من ناحية التمثيلات الرمزية المكتنفة لسياقات الكتابة عند
أديبنا، أوقفنا نص له تميزه وفرادته في هذا الباب، حيث يضع الصباغ متماثلا ومضاهيا
للشاعر "ريلكه"، من حيث النهل المبدع لمقومات وسمات الاتجاه الرمزي،
والنص لصاحبه الدكتور ممدوح حقي، الذي آثرنا أن نستأنس به في إبراز معانيه، حيث
يقول:
«حينما ترجمت ديوان شاعر
ألمانيا الكبير، "رينرمارياريلكه" عانيت صعوبة كبيرة جدا في ربط صوره
بعضها ببعض، وكانت تلوح لي أحيانا كأنها مفككة لا تتواصل الكلمة ومعناها، ولا
يترابط المعنى والصورة.
ولولا
حماستي في نقله إلى العربية، تطعيما لأدبنا بما في آداب الأمم الأخرى، ولولا
إيماني بواجب الأديب في خدمة الفكر، لألقيت الديوان في سلة المهملات غاضبا، أو
لقذفت به في النار. وانبثق لي بعد الصبر المرير، وطول الأناة، شعاع طرح في طريق
رمزيته[29] نورا، فأشرق على أسلوبه، وأدركت سره، وفرحت به
فرحا أغراني بالمثابرة على الترجمة وموالاة التدقيق، وسررت بنشره سرورا عظيما، كأن
الله تعالى منحني مولودا جديدا. وكنت أظن أن عبقرية "ريلكه" في تحطيم
الكلمة ودعس معانيها، ثم إعادة صياغتها وتلوينها من خصائصه وحده، وكنت أشك بأي
كاتب عربي أن يرتفع إلى هذا المستوى النادر من المقدرة، حتى أهدى إلي الأخ الأديب
السيد محمد الصباغ كتابه "كالرسم بالوهم" فتنبهت فيه إلى أسلوب جديد،
ذكرني في الحال بريلكه، فطفقت ألتهم صفحاته التهاما، ولا أقول أقرأه أو أتصفحه، بل
أقول: كنت آكله، وأشربه، وأشمه، وأضمه.. »[30].
وإذا كنا قد وقفنا على ملمحين دالين هما:
الرومانسية، والرمزية، اللذان ظهرت مؤثراتهما واضحة على أدب الصباغ، فلا شك أن
تشكيلات أخرى من الإتجاهات الأدبية قد بدت ملامحها واضحة حينا، ومستترة أحيانا،
وهي تتسربل داخل رداء التلوينات الإبداعية التي أتانا بها هذا الأديب المتميز. ومن
أبرز هاته الملامح الأخرى نجد المنحى الصوفي؛ فهو ينهل من التراث الصوفي نهل
العاشق من حياض المنى، ولعل منابع هذا النهل تعود إلى النشأة والتربية التي تحدثنا
عنها، والتي كانت متكئة على القرآن الكريم والعلوم التي تدور في فلكه، والتي لها
قرابة بعالم التصوف، ونحسب أن كتاب "اللائيون ويحترق البحر" هو أبرز
تجلي للمنحى الصوفي عند الصباغ، والذي أبان فيه، إضافة إلى مناخه الصوفي، عن
اقتدار كبير، واطلاع واسع، وتبحر موغل في العديد من التصورات الفكرية والمذهبية،
عبر مختلف الأزمنة، وعلى امتداد أماكن متباعدة وشاسعة. نستمع إليه وهو يتحدث عن
"السهروردي" :
«من يدري، الحفار والفأس
لا يدريان، وكذلك الكفن والقبر. لعله لم يدفن. لعل موته الذي هيئ بطريقة صفراء،
طرح إلى غراب، أو عقاب، أو أسنان معصرة. لا أحد يدري كيف تكورت وتدحرجت تكعيبة
دماغه. هل سالت؟ هل اعتصرت؟ هل اختصرت في قطرة صعبة؟ متحجرة لا أحد يدري.
من
الأخبار الكبيرة الذبيحة أتى فجر الزوبعة بسرعة، وفي أنقاضها غاب في المبهم
البهيم.
ما زالت
الريشات تحفر وتنقب عن السر المضرج بدماء السر. إلى هذا الأوان، ما زالت الريشات
ترسم زوايا غيابه بريشة الوهم والتجريد. مازالت قعدته في كتب البحث والتحقيق على
كرسي هزار»[31].
فلغة الصباغ، هنا، تمتح من الرمزية الصوفية في
أبهى صورها، وهي مسلحة بمعرفة تجمع بين التاريخ والتأمل، والذات والإنسيابات
النفسية. وهذا ما دفع الشاعر الإسباني الكبير، خوان رامون خمنيث، الحاصل على جائزة
نوبل للآداب عام 1956، إلى مخاطبة الصباغ قائلا له: «…كلماتك يفوح منها أريج الشرق وبخوره، فتملأ
غرفتي بالأحلام والأشواق والأشباح والسحر…»[32]. ولعل
مثل هذه الشهادات القوية والدالة، تفند ما ذهبت إليه بعض الآراء التي لا تنبني على
تحليل جيد وعميق، والتي تدعي أن أسلوب الصباغ سطحي وقريب، وتفتقد مواضيعه إلى عمق
فكري. فنحن أمامنا سيل جارف من شهادات كبار أدباء المغرب وأدباء المشرق، وكذا
أدباء إسبانيا، الذين يعترفون بهذه الإبداعية الألمعية والمتميزة، التي تفوح من
أدب الصباغ، والتي تبوئه مكانة رفيعة ووارفة في حقول الأدب العربي الحديث، وأيضا
الأدب العالمي المعاصر.
ومؤثرات محمد الصباغ الأدبية، لا تنحصر في تمثله
لمجموعة من الإتجاهات الأدبية التي أصبحت معروفة اليوم. بل تمتد إلى اطلاعه العميق
والجيد على المناحي الفكرية والأدبية والمعرفية التي يتمثلها التراث، وأيضا، نجدها
تشرئب نحو ابتكار وابتداع أشكال وتلوينات أسلوبية، طبعت يراعه بطابعه الخاص. وهذه
شهادة الشاعر الإسباني الكبير فثنطي ألكسندري، الحاصل هو الآخر على نوبل عام 1977.
يقول في حق الصباغ:
»… يتميز شعر محمد
الصباغ، بعطر أصيل يتضوع من قلب معاصر. نحس في صوت هذا الشاعر العربي، بصلة قريبة
منا. ففي أغانيه التي يصدح بها، صدق ومرارة وتشاؤم…«[33]. ومعنى
هذا، أن الصباغ في نظر ألكسندري، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين روح تمثل
التراث، تمثلا فنيا وجماليا باذخا، وبين الإنفتاح على أفق إبداعي بكر وجديد،
يستلهم مكوناته من حمأة حركية المعاصرة.
وهذا ما يذهب إليه الشاعر المغربي حسن الطريبق،
حين يحلل أدب محمد الصباغ، فينبه إلى كون هذا الأديب لم يخرج قط عن الأصالة، وهو
في أبهى صور معانقته للتشكيلات الحداثية، كما أنه لم ينفلت، ولو لنأمة واحدة عن
ولعه وافتتانه بأسلوب التحديث والتجديد، وهو في أعمق وأوغل انسياباته وأسفاره في
ربوع التراث، وفي هذا السياق يقول:
»… محمد الصباغ أديب أصيل
أفصح عن عطاء أدبي ممتاز، ومر على عدة مراحل مكنته من أن يغترف مضامينه، وهو مفتون
بالجمال يلتقط من سرحات خياله الفتنة بقلم سيال، وطبع منقاد، وقريحة متفتحة. إنه
كاتب خيال، له تخريجات خيالية متفردة، لعلها بمراعاة البعد التعبيري، تقوم مقام
"الحكمة" وتعطي تميزا للرجل، لا بد من ملاحظته جيدا في نطاق البحث
والنقد. وإنه عبر ساحة تجربته، تراوح بين الإتباع والإبداع…«[34].
ويمكن القول أن الشاعر حسن الطريبق وضعنا وجها
لوجه أمام صورة الشخصية الصباغية الأدبية، مفصحا عن تكوينها الذي يجمع بين قطبي
الأصالة والمعاصرة، الإتباع والإبداع.
5 - أفق الترجمة
في الفصل السابق تحدثنا عن العمل الصحفي، وذكرنا
مجموعة من المجلات، التي أصبح توجهها يسير نحو التخصص في الأدب، وإن ظلت منفتحة
على مجالات أخرى، محايثة للأدب، أو قريبة منه، أو متشاكلة معه. ومن جملة هذه
المجلات أشرنا إلى "الأنيس"، و"السلام"،
و"الأنوار"، و"المغرب الجديد"، وهي كلها كانت تحتضن أقلاما
متنوعة وعديدة، وأسماء لها قيمتها، وموقعها الأدبي والثقافي. ونظرا لطبيعة العلاقة
التي شكلت محور المد والجزر بين إسبانيا من جهة وشمال المغرب من جهة ثانية، فإن
ضرورة الانفتاح على الآخر من كلا الطرفين، أصبحت ملحة وضاغطة في كل المجالات،
ولاشك أن المجال الثقافي والأدبي هو - دائما - يشكل النموذج الأمثل لهذا الإنفتاح،
والتقرب، والتعرف، قبل أي مجال آخر. ومن هاته الزاوية بالذات، شرعت تلك المجلات
المذكورة آنفا في تخصيص صفحات مهمة وأساسية لمجال الترجمة، ولقد تحمس للنهوض بهذا
الباب عدد من ألمع الأدباء والكتاب الذين كانوا معروفين في الساحة وقتئذ، من
أمثال: محمد الصباغ، وعبد اللطبف الخطيب، وعبد السلام المؤذن، ونجيب أبو ملهم،
الذين كانوا يترجمون عن الإسبانية غالبا، وأحيانا قليلة عن الفرنسية، ثم محمد بن
تاويت الذي ساهم في الترجمة عن لغات عدة، ومن أبرز ما قام به في تلك الفترة
المبكرة، هو ترجمته لنصوص شعرية تركية.
والذي يمكن أن نلاحظه، في هذا الصدد، هو أن هذه
الحركة التي دبت في مجال الترجمة، على مستوى الخطاب الأدبي خاصة، لم تكن منضوية
تحت تصور منهجي معين، ولم تكن لها استراتيجية واضحة، أو تخطيط محكم المنطلقات
والغايات، وفي منواله، وعلى هداه يشتغل المترجم. بل كل ما كان هنالك، فقط، مبادرات
فردية تكاد تكون إلى الهواية أقرب منها إلى العمل في إطار تصور متكامل المعالم، في
سياق أفق أدبي وفكري واع ومنظم. ولكن هذا لا يعني أن هذا العمل لم تكن له إيجابيات
ومنافع، بلى، فلقد كان بمثابة الشرارة الأولى التي فتحت الوجدان المغربي على
الإبداع العالمي، ومنه الإسباني خاصة. كما أنها شكلت تلك المدرسة الفسيحة، التي
امتلك في رحابها هؤلاء الأدباء المترجمون، دربة أدبية، وخبرة فنية، وتجربة عميقة
ودالة في مجال استكشاف النصوص الأخرى، المغايرة، ثم مقاربتها ومقارنتها بما نبدع
نحن.
ومن هذا
الموقع نقول إن محمد الصباغ من أبرز الأدباء الذين امتلكوا تلك الدربة الأدبية،
وتلك الخبرة الفنية والترجمة الإبداعية المغايرة، من خلال ممارسته العاشقة
للترجمة، ومن ثم، تكون هذه الأخيرة، مؤثرا قويا، من ضمن المؤثرات الدالة التي تركت
ملامحها بادية على شخصية الصباغ. ولم يتوقف طموح الترجمة عند هاته الحدود التي ظلت
مرتبطة بفلتات أدبية مترجمة تنشر اعتباطا في هذه المجلة أو تلك، بل بفعل الممارسة،
وبفعل الالتحام بأدب آخر، وأيضا بفعل العلاقات الحميمية التي تم ربطها مع هذا
الآخر، فإن الصورة بدأت تتغير، والمسافات تتحدد وتنجلي، والطريق يستنير نحو الهدف،
وخاصة وأن التجربة وصلت إلى منعطف معرفي مهم.
هكذا تم
التفكير في إنشاء منبر متخصص في الترجمة الأدبية، أو لنقل في الترجمة الشعرية، وقد
تم -بالفعل- تأسيس هذا المنبر الثقافي بتطوان من طرف الأستاذة "طيرينا
ميركادير"، وقد تولى محمد الصباغ الإشراف على القسم العربي، وفي هذا السياق
يقول الباحث عبد المالك عليوي:
لقد
بدأت الترجمة الشعرية تنسج ملامحها، بتأسيس أول عمل ثقافي فريد، وهو مجلة المعتمد،
وإصرار طيرينا ميركادير على فتح حوار حول الشعر المغربي ووضعيته، وفي الآن نفسه
إصرارها على إنجاز مجلة ثقافية، عربية - إسبانية، تعنى بالشعر والنثر، تعريفا
بالأدبين: العربي والإسباني، بعيدا عن أي تمركز ذاتي، وبعيدا عن أي إلغاء ثقافي،
شبيها بما قام به المركز الثقافي بمصر للمغاربة. لقد استدعت الشاعرة طاقما من
الشعراء المغاربة والمشارقة، والمستعمرين الإسبان، لدعم أكبر عمل للتحديث الشعري،
وأرقى منبر لترجمة الشعر العربي والإسباني والعالمي. لذلك، بدأ فعل الترجمة منظما وواصلا
بين الشعر العربي الحديث في مصر، ثم لبنان والمحيط، وكانت هذه المجلة من المنابر
الرئيسية لهجرة الشعر العربي نحو القارئ الإسباني ومن "أرض لغوية غير
مستقرة" نمت ترجمة الشعر الحديث، وأعلنت عن صيحتها بطاقم مغربي - مشرقي
وإسباني«[35].
ومن أهم العناصر المكونة لهذا الطاقم الذي
يحدثنا عنه عبد المالك عليوي، نجد: محمد الصباغ، عبد اللطيف الخطيب، محمد العربي
الخطابي، موسى عبود، نجيب أبو ملهم، وأحمد التدلاوي، وهذه هي الأسماء العربية التي
كانت تشكل طاقم القسم العربي، أما الطاقم الإسباني، فكان مكونا من: خاثينطو لوبيث
كورخي، وغارثيا كوميث، وغونزاليس بالينسيا، وليونور مرتينيز مرتين، وكرمين موندي،
وقد انضم إلى فريق الترجمة كل من كروث إيرنانديث وهو مستعرب غرناطي، وفيرناندو دي
لاغرانخا، والمستعرب خوسي كاسياروا، وإنركي بيربينا، وسوليداد خبير [36].
ونلاحظ، من خلال هذه الفرق المتخصصة، وهذا
التنظيم المحكم، أن مفهوم الترجمة الأدبية أصبح منسجما في أبعاده ومقوماته، وغدت
له صورة مغايرة، تطمح إلى الإسهام في انفتاح الحضارات بعضها على البعض، وأيضا في
إيصال ملامح أدب الآخر إيصالا كاملا غير مبتور، لذلك نجد أن مهمة هذه المجلة لم
تقتصر على ترجمة نصوص شعرية عربية وإسبانية، بل تعدت ذلك إلى مرحلة التعريف
بالشعر. فبالإضافة إلى عملها المحوري، والتمثل في نقل عيون الشعر الإسباني إلى
القارئ العربي، وأيضا، ترجمة عيون الشعر العربي إلى القارئ الإسباني، فإنها أسهمت
مساهمة فعالة، في التعريف بالشعر الإسباني الحديث، وكذلك حركة التحديث التي
أصابته، انطلاقا من تقديم مجموعة من الشعراء العرب الحديثين إلى القارئ الإسباني،
مع التعريف بالإتجاهات الشعرية الموجودة، ومستويات التحديث المصاحبة لهذه
الإتجاهات، ومدى إضافتها للشعر العربي عموما، وكذلك تميزها عن الأشكال السابقة،
ونفس الأمر نجده بالنسبة لتقديم الشعر الإسباني إلى القارئ العربي.
وقد ربطت مجلة المعتمد علاقات شعرية وطيدة مع
رموز الشعر الإسباني، وكذلك مع الأعلام البارزة في حركة الشعر العربي الحديث، وفي
مقدمتهم شعراء المهجر. وهكذا فإن محمد الصباغ هبت عليه مؤثرات بليلة وخلاقة من
داخل حركة الترجمة التي اندمج في سياقها اندماجا شموليا، فبرزت ملامح هاته الهبات
في العديد من كتاباته، من خلال الرؤية، وأيضا عبر الصورة الفنية، والصيغ الأسلوبية
المتجددة[37].
6 - تشكيل واستنتاج
وقفنا على جملة من المؤثرات الفعالة والجوهرية،
كانت بمثابة شرارة مشعة ومضيئة، أسهمت جميعها في إبراز وبلورة شخصية أديبنا محمد
الصباغ، وهي مؤثرات كانت منطلقاتها ترصد مواطن النشأة والتعليم، حيث ارتبطت
علاقاته المعرفية الأولى والبكرة بالنص القرآني الكريم، هذا النص الذي سيشكل منبع
التمثلات الفنية والدلالية على مستوى اللغة المجازية، وعلى مستوى الملامح
التصويرية للأسلوب. كما أن هذا النص المقدس ساهم في تعميق مناحي التأمل في مخيال
أديبنا، ووصل بينه وبين الإشراقات الصوفية، التي مارست تأثيرها في السر والعلانية.
وقد شكل ارتباطه بالشعر المهجري مرحلة جديدة ومتميزة زرعت بذور التشكيلات
الرومانسية والرمزية في مجمل إبداعه، كما أن علاقته العميقة بالشعر الإسباني جذرت
هذه الرمزية، وفتحت أمامه شرفات طلقة وفسيحة ومتجددة. وكان ارتباطه بالعمل الصحفي،
وإسهامه الخصب في الترجمة الشعرية محطة أساسية ومركزية، فتحت أمامه الطرق
المستغلقة، وحركت المجاري الآسنة.
تلك هي أهم المؤثرات التي ساهمت في نمو وبلورة
هاته الشخصية الأدبية الفريدة، ومنحتها توهجها وإشراقها. ونضيف إلى كل هذا، ما
اكتسبه الصباغ عبر القراءة العميقة والمستمرة، وتوظيفه لنصوص غائبة داخل كتابته
أمر شائع، وله جمالياته وتركيباته الفنية المتفردة، وهو ما وقف عليه بولس سلامة،
حيث يقول:
«(الصباغ) ذهن مليء بالمطالعات المختلفة، وصدر يلتقي فيه
(شوبنهور) و(نيتشه)، وقلم يزدحم عليه
(الغزالي) و(ابن الفارض)، وقيثارة ترن على أوتارها (مزامير داود) و (أناشيد
سليمان)«[38].
هذا هو الصباغ، وتلك هي المؤثرات؛ الظاهرة والباطنة، القريبة والبعيدة، التي ساهمت في استجلاء إبداعيته، ومنحت لغته الأدبية جدّتها وألقها
الحداثي الوارف.
[1]- هي سيرة ذاتية غير مطبوعة،نشرها محمد الصباغ عبر حلقات أسبوعية تحت
عنوان : "الجمعة الخضراء - الطفولة الستون " بجريدة العلم ابتداء من سنة
1992.
[2] - في جلسة حميمية خاصة
جمعتني بأديبنا محمد الصباغ ذات عشية من عشايا الربيع الرباطية بمنزله الأنيق
"رَوْحٌ وريحان " أخبرني أن القرآن الكريم هو رفيقه وظله، يقضي بصحبته
أروع اللحيظات وأحلاها. وهو يرى أن جماليات لغة القرآن الكريم، وإشراقاتها
المجازية والتصويرية البليغة والآخاذة لا مثيل لها على الإطلاق في كل التشكيلات
المعرفية والأدبية،ويرى أن من لم يطلع على القرآن الكريم اطلاعا عميقا وعاشقا،لن
يستطيع التوغل في استخراج واستجلاء جماليات وفنية لغتنا العربية.
[3] -يرجع إلى الطفولة الستون،
سيرة ذاتية منشورة بجريدة العلم،وعنوان السيرة يبين إلى أي حد ظلت ظلال الطفولة
مترامية بأطرافها البهية على حياة الكاتب
في كل مراحلها.
[4] - إدريس خليفة، الحركة
العلمية والثقافية بتطوان/ من الحماية إلى الإستقلال، م.س، ج/1، ص: 302.
[5] - عبد العلي الودغيري،
قراءات في أدب الصباغ، ط/1، دار الثقافة، 1977، البيضاء، ص: 10.
[6] - إدريس خليفة، الحركة العلمية والثقافية بتطوان/ من الحماية إلى
الإستقلال، م.س، ص: 303.
[7] - هذا مقطع من نص بعنوان "منارة تطوان" لمحمد الصباغ، نشره
ضمن كتابه (فوارة الظمأ) الذي نقل عنه الأستاذ عبد العلي الودغيري.
[8] - عبد العلي الودغيري،
قراءات في أدب الصباغ، م.س، ص: 11.
[9] - خلال
احتفالات "عيد الكتاب" بتطوان لعام 2000 تم تنظيم ندوة تكريمية لمحمد
الصباغ شارك فيها كل من: امحمد عزيمان، عبد الكريم الطبال، نجيب العوفي، محمد
الميموني، وكاتب هذه الكلمات، بحضور المحتفى به، وفي سياق كلمة أستاذ الأجيال
امحمد عزيمان،أشار إلى هاته الفترة المهمة والأساسية في حياة محمد الصباغ،حين
التحق تلميذا متألقا،ومتوقدا ذكاء وفطنة ونباهة،وكيف،استقبله الأستاذ عزيمان الذي
كان مسؤولا على المعهد وقتئذ.ثم ذكر بإسهاب تلك الخصال الأدبية والخلقية الرفيعة
التي كان يتحلى بها التلميذ اللامع محمد الصباغ طيلة فترة الدراسة،والتي كانت تنبئ
ببزوغ فجر موهبة أدبية ساطعة (…) وقد تركت كلمات عزيمان الحميمية أثرا بليغا في
نفسية (الفتى الحاضر المبجل) حيث أعادته سنين مددا إلى حيث البذرة الأولى،فقام
يعانق أستاذه بحميمية مغرورقة المآقي،تركتنا نحن أيضا ننصهر ونذوب في تلك اللحظة
الوجدانية النادرة .
[10] - كانت هنالك مجموعة من
المجلات الحائطية التي تصدرها هاته المدارس الابتدائية والثانوية تحت إشراف
التلاميذ أنفسهم، وهكذا تم إصدار جريدة "الثبات" بالمدرسة الابتدائية
للبنين التي أنشأتها "الجمعية الخيرية" وكان الفتى محمد الصباغ هو
المكلف بالإشراف على هذه الجريدة.
كذلك داخل "المعهد الحر" تم إصدار مجلة "قبس
المعهد" وكان رئيس تحريرها هو محمد الصباغ. وهذه كلها، وغيرها،معلومات
استخلصناها من سيرته الذاتية "الطفولة الستون" والتي أشرنا إليها سابقا.
[11] - يحكي الكاتب الروائي
المغربي المشهور محمد شكري أنه حينما كان صغيرا شاهد ذات يوم بالشارع الرئيسي بتطوان
رجلا محترما يسير الهوينى،كان أنيقا وتبدو عليه ملامح التقدير والإعجاب، ومن حوله
الناس يحيونه ويتقدمون للسلام عليه بإجلال كبير، وكلما مر أمام جماعة إلا وفسحت له
المسير بتبجيل خاص. فسأل عن هوية هذا الشخص،فقيل له إنه محمد الصباغ،ثم سأل ثانية
عن مهنته فأجيب،إنه كاتب، فظلت هاته العبارة،وتلك الصورة مرسومة في ذهنه وفي
نفسيته، وقرر مع ذاته أن يجتهد ويعمل المستحيل حتى يصير كاتبا مرموقا مثل محمد
الصباغ. وفعلا كان له ذلك. فهذه صورة من صور ذلك التأثير الذي ينقشه الأديب في
شخصية الموهبة الفتية، فينعش روحها، ويشحذ همتها وطموحها.
[12] - محمد الصباغ، فوارة الظمأ، ط/1، تونس، 1961، ص: 17.
[13] - عبد العلي الودغيري،
قراءات في أدب الصباغ، م.س، ص: 14.
[14] - نذكر أن هذا البحث
الأكاديمي،يبتغي،من خلال استراتيجيته التحليلية، تأكيد هذا الطرح،وإبراز هذا
التوجه.
[15] - عن أطروحة جامعية للأستاذ الباحث عبد المالك عليوي عنوانها
"الشعر الحديث في شمال المغرب" خزانة كلية الآداب والعلوم
الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط،
1998، ص: 219 .
[16] - يمكن أن نتحدث هنا عن
تأثر محمد الصباغ بجبران خليل جبران،وهذا التأثر له مسعفاته التي سنتحدث عنها في سياقها.
[17] - عبد المالك عليوي، الشعر
الحديث في شمال المغرب، م.س،ص: 219.
[18] - نفسه، ص: 271 .
[19] - المرجع السابق، ص: 271.
[20] - لذلك نجد أن الصباغ قد سارع إلى نشر بعض كتبه بالإسبانية،قبل أن
ينشرها بالعربية،كما أن شهرته سبقت إلى المشرق، والمهجر، وإسبانيا، وأصبح له قراء
كثر، وأصبح هناك محفوفا بالتبجيل والإجلال والإعجاب، في الوقت الذي ظل فيه يعاني
من العزلة وعدم الإهتمام، واللامبالاة وسط بني حارته، مع استثناءات بطبيعة الحال.
[21] - عبد العلي الودغيري، محمد الصباغ بأقلام النقاد والأدباء، م.س، ص:
16.
[22] - مجلة أدبية كانت تصدر
بتطوان أشرنا إليها سابقا، وهذا يدل على أن المجلات والجرائد التطوانية كانت تصل
إلى تونس وغيرها من البلدان، مساهمة في بعث نهضة أدبية عربية شاملة.
[23] - عبد العلي الودغيري، محمد الصباغ بأقلام النقاد والأدباء، م.س، ص: 16.
[24] - المرجع السابق، ص: 16.
[25] - محمد الصباغ، اللهاث
الجريح، تطوان، 1955، ص: 25.
[26] - جبران خليل جبران،
المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران، قدم لها وأشرف على تنسيقها ميخائيل
نعيمه، دار صادر، بدون تاريخ، بيروت، ص: 322.
[27] - التشديد من عندنا، وهذا يدل على أن تنوع الاتجاهات كان حاضرا في
كتابات الصباغ.
[28] - عبد العلي الودغيري، محمد
الصباغ بأقلام النقاد والأدباء، م.س، ص: 93.
[29] - التشديد من عندنا.
[30] - المرجع السابق، ص/ص: 31/ 32.
[31] - محمد الصباغ، اللائيون
ويحترق البحر، مجلة مواسم، عدد:9/10، صيف
98/ خريف 99، ص: 186.
[32] - عبد العلي الودغيري، محمد الصباغ بأقلام النقاد والأدباء، م.س، ص: 11.
[33] - المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
[34] - نفسه - ص: 19.
[35] - عبد المالك عليوي - الشعر
الحديث بشمال المغرب، م.س،ص: 238.
[36] - المرجع السابق، ص: 238.
[37] - ستظهر مؤثرات الترجمة عند
محمد الصباغ على الخصوص، في قصيدة النثر. وهذه قضية سنعالجها في الفصل الأخير من
هذا البحث.
[38] - عبد العلي الودغيري، محمد
الصباغ بأقلام النقاد والأدباء، م.س، ص: 176.
ليست هناك تعليقات